الهاربون من الجحيم - أمل عريضة

خدمة شبكة الأمة يرس الإخبارية
2009-11-21

شهرٌ كاملٌ مرّ وعوّاد يواصلُ هروبه الأخرق. رأسه مستودعٌ للقلق والاضطراب. تلاحقه أصواتُ الانفجارات... ارتجاجُ الأرض تحت قدميه. صرخاتٌ حقودة مليئة بالرعب. دخانٌ كثيف يحولُ لحظاتٍ دون رؤية الدمار المنتشر، ثم... تتراءى له صورُ أشلاءٍ متناثرة لبشرٍ يخيّل إليه أنه كان يعرفهم، فتنتابه موجاتٌ من الذعر والألم، ويغرقُ جسده في اختلاجاتٍ حادة ورتيبة. حين يصحو يفاجئه شعورٌ قوي بالعطش، ويلاحظُ أنّ ثيابه مبللة. تلتصقُ به ممسكة برائحة واخزة.

شهرٌ مرّ منذ بدأ عوّاد رحلته في متاهات الضياع. يسحبُ قدمه المتورمة بعناءٍ شديد كأنه يجرّ عربة ثقيلة. يقتاتُ من نفايات المدن والقرى التي دخلها وغادرها غريباً ومن عشب الأرض ونباتها البريّ. مراتٍ عديدة لفظتْ أمعاؤه الطعامَ الجديد، وراحت بفعل الجوع والإقياءات تنتشرُ أبخرة حمضية من معدته وتصعدُ إلى حلقه. وكانت حبالُ النجاة في حنجرته أوهنَ من أن تستغيثَ. شغلته أعاصيرُه الداخلية، وغلّفَ ذهنه ضبابٌ كثيف، فلم يرَ البلادَ وهي تتنقلُ من تخبطٍ لآخرَ، ولم يدركْ ميزاتِ فوضى نَعمَ بها البعضُ. فوضى أمّنتْ له هو نفسه السلامة، فعبرَ الحدودَ إلى سورية دون أن يستوقفه أحد.

ظلّت وَسَن تواصلُ الاتصالَ بأقربائها في بغدادَ متلمّسة أخباراً عن أخيها وابنته. أكّدوا لها أنهم لم يعثروا بين الأنقاض إلا على أشلاء الزوجة والطفل الصغير سامي. فكّرت بالعودة لتبحثَ عنهما بنفسها لكنّهم أقنعوها بعدم جدوى ذلك خاصة أنّ العصابات تعيث فساداً بالبلد.

كانت وسن قد تلقت قبل أشهر دعوة من جامعة أ ميركية خصّصتْ لها مرسماً لتواصلَ رسمها في مكان آمن بعد أن انقطعت عن عملها بالتدريس في جامعة بغداد بسبب ظروف الحرب. تردّدت في البداية أن تترك أخاها الوحيد وعائلته، لكنّ عوّادَ شجعها قائلاً:

البلد ينهارُ. لافائدة من البقاء

- إذاً لمَ لا تمشي أنت الآخر؟

- ماذا تقولين؟! أنا صحفيّ، وعملي الآن هنا أكثرُ إلحاحاً وضرورة!

- لاتتفاءل. كلّ يوم تنبتُ ذراعٌ جديدة للحرب. إنها أخطبوط مريع.

- قد أرسلُ أروى والأولاد إلى مكانٍ ما.

رأتْ وسن موجاتٍ بشرية كبيرة تغادرُ العراقَ إلى دول الجوار وأوروبة وأ ميركا مما دفعها أخيراً لقبول الدعوة.ً

كانت الجامعة الأ ميركية التي استضافتها ومنحتها غرفة في السكن الجامعيّ تعزمُ على تنظيم معرضٍ عن الحرب، فراحت تحثها على إنتاج أكبر قدر من اللوحات التي سيعود ريعها إلى اللاجئين العراقيين. لكنّ ذاكرة وَسن والصور التي تصلها عبر الانترنت عن الخراب العراقيّ شلا عقلها ومشاعرها، فأحسّت لأول مرة أنّ كونها فنانة لايعني شيئاً على الإطلاق.

بعد أسبوعين من اختفاء عوّاد وابنته رَوَد ذات الثلاثة عشر ربيعاً وضعت وسن إعلاناً في بعض الصحف يحملُ صورتيهما وخبر فقدهما، فإذا بأقربائها في بغداد يخبرونها بعد أيام أنّ عصابة اتصلت بهم وطلبت فدية كبيرة مقابل إرجاع الصبية الصغيرة. أرسلتْ معظم ماادّخرته من مال، لكن الفدية ذهبت وانقطعت اتصالات العصابة وظلت رود مختفية. كان قلقُ وسن عليها أكبرَ من قلقها على عوّاد، فهو رجلٌ قويّ ويستطيعُ مواجهة الأخطار إن كان مايزالُ حيّاً.

اتصلت بالمنظمات الإنسانية داخلَ العراق وخارجه. أخيراً قال لها أحدُ الناشطين بصراحة أجفلتها:

نرجو ألا تكون وقعتْ ضحية إحدى عصابات تجارة الرقيق الأبيض، أو نرجو على الأقل أن نصلَ إليها قبل فوات الأوان.

للحظاتٍ فقدت وسن قدرتها على النطق. جفّ حلقها من الذعر، وشبّ في نفسها حقدٌ على كلّ شيء... النظام السابق والحالي... أميركا... القدر... كلّ من مدّ يديه إلى الغنيمة المتروكة ونهشَ لقمة... العالم المتفرّج... جميعهم غرزوا سكاكينهم في الجسد العراقيّ. أغلقت السماعة وغرقت في بكاء مرير.

صَحَتْ وسن في اليوم التالي وبها رغبة شديدة بالعمل. توجّهت إلى المرسم. وجدتْ أستاذاً آخر يشغله مع طلابه، فمضت إلى كافيتيريا الجامعة تتناول قهوتها بانتظار أن يفرغ المرسم. وجدت على الطاولة مجلة توزّعها الجامعة مجانا. كان على الغلاف صورة كبيرة كاريكاتيرية لصدّام حسين يتدلى من حبل المشنقة. استغربت كثيراً أن يحظى هذا الحدث بغلاف مجلة أ ميركية للشباب، خاصة وأنّ الخبر صار قديماً وكاد الناسُ ينسونه. قلّبت المجلة باحثة عن الموضوع الخاص بصدّام أو العراق فلم تجد شيئاً. كانت المواضيع تتوزع بين الأزياء والموضة والتقنيات، ولايوجد موضوع واحد عن السياسة أو الشرق الأوسط.

- يبدو أني أحتاج وقتاً أطول هنا لأفهمَ آلية تفكير الإعلام الغربيّ.

صار هدفها واضحاً. سترسمُ لوحة لفتاة عراقية الملامح مقيدة بالسلاسل أمام سرير أحد الأثرياء العرب. لن تستطيعَ أن تجعلَ لها ملامح رَوَد، فهذا فوق احتمالها، إضافة أنّ رود لها شَعرٌ أشقرُ وبشرة شاحبة لاتعبّرُ عن الوجه العراقيّ، لكنها بالتأكيد ستحمّلُ اللوحة قلقها وغضبها من ذكورة سافلة. أمضت فترة بعد الظهر كلها في المرسم، وكانت تودُّ البقاء حتى الثامنة ليلاً لولا تذكّرها هاتف البارحة:

- هنا (دِك كورن) مقدّم برنامج (القصة) في إذاعة (ان بي آر) العامة. علمنا عن دعوة الجامعة لك، وأودُّ ان أستضيفك في برنامجي غداً لتحكي لنا قصة مجيئك إلى هنا وتجربتك الفنية عن الحرب.

هكذا توجّهت وسن إلى مبنى الإذاعة، ورأسها مليء بالحكايا والأفكار. أرادت أن تكون مؤثرة في حديثها عن معاناة شعبها، لكنها فهمت بسرعة أنّ الحوار يهدفُ إلى إلقاء الضوء على نشاط الجامعة الأ ميركية الأكاديميّ والإنسانيّ.

ماكادت تغادرُ الحافلة حتى أحسّت أن هناك من يتبعها. كانت أول مرة تعود متأخرة إلى مسكنها. التفتتْ فرأت رجلاً أسود البشرة طويلَ القامة عريض المنكبين يرتدي ثياباً رثة فاقعة الألوان. أقبل نحوها محيياً وقال: أعطني نقوداً. أريدُ أن آكل.

فكرت للحظة أن تعطيه بعض السنتات ثم تذكّرت الورقة التي سلّمتها إياها الجامعة يوم وصولها، وفيها قائمة طويلة بالقواعد التي عليها مراعاتها للحفاظ على سلامتها من المتشردين والمجرمين. إنّ رؤيته لنقودها قد تثيره وتدفعه لفعل عدوانيّ. ماذا لو كان يحملُ سلاحاً؟! ردّت باقتضاب:

آسفة. ليس معي نقود.

ردّدَ الرجلُ بإيقاعٍ يذكّرُ بموسيقا الروك والطبول الإفريقية:

أعطني نقوداً. أعطني طعاماً. لا عشاء عندي.

كان الحيّ غارقاً في العتمة، وزادته الأشجار الضخمة المعمّرة وحشة. لماذا تختلفُ الجهاتُ في الليل؟ يجب ألا يعرفَ هذا المتشرّد أنها ضلّت طريقها. كان جنوناً أن تعود متأخرة وليس لديها سيارة بعد. مضت الدقائقُ وتطاولت كهذه الغابة التي تلفّ المدينة وتتوغلُ في أحيائها. ليتها قتلت مع أهلها في حرائق بغداد ولم تقع فريسة سهلة في أحد الأحياء الأ ميركية. فجاءة أقبل نحوهما ثلاثة رجال لهم ثيابُ عمّال وملامحٌ مكسيكية. تذكّرتْ كلّ الأحاديث عن مدمني المخدرات المكسيكيين في أميركا فتلاشت آخر بقايا عزيمتها ووهنتْ مفاصلها. نظروا إليهما باستغراب، فهندامها الأنيق لم يكن يتناسب مع ثياب المتشرد البالية والمتناقضة الألوان، وكأنهم فهموا الموقف، فسألوها إن كانت بحاجة للمساعدة. أحنت رأسها بالإيجاب وقد اختفى صوتها. أمسكَ المتشرّدُ بذراعها بتماهٍ قائلا:

إنها صاحبتي. لقد اختارتني ودعتني لأشاركها العشاء في بيتها. أرجو أن تمضوا وتتركونا وشأننا. صرخت بصوت مخنوق: لاأعرفه!

صرخَ به أحدُ الرجال: امضِ من هنا. دعها وشأنها وإلا سأتصلُ بالشرطة حالاً.

ولجتْ إلى حجرتها غير مصدقة نجاتها. ابتلعت ريقها فأحست بالجفاف ينهبه والأشواك تملؤه. وكانت ليلتها أكثرَ اضطراباً وكوابيسَ. سمعتْ رود تصرخ مستغيثة وضحكاتٌ ماجنة صاخبة تلاحقها. رأت عوّاد يتنفسُ بصعوبة تحت الأنقاض مشلولاً لايستطيعُ الحراك أو النطق.

في نفس اليوم في بيتٍ على أطراف الريف السوريّ تجمّع أفرادُ عائلة حول سرير أبٍ مريض. كانت حالته الصحية قد تدهورت كثيراً مما جعلَ أولاده يلازمونه ساعات النهار وليله. عند الفجر دخلت الابنة غرفتها لتصليَ، ففوجئت بأحدٍ ما ينام في سريرها. وقفت مشدوهة لحظة، فجميع الإخوة كانوا يشاركونها غرفة الأب... من هذا إذاً؟! اقتربت أكثر وأمعنت النظرَ في جانب الوجه الذي ظهر من تحت الغطاء. رأت وجه رجل يملؤه شَعرٌ كثيف. لم تعرفه ولم تره من قبل. هرولت تخبرُ إخوتها أنّ غريباً ينامُ في سريرها. ظنّ البعضُ أنها تتوهم بفعل السهر الطويل جانب الأب بينما نهضَ أصغرهم بسرعة.

وقفَ هو الآخر لحظاتٍ يتأمّلُ ملامحَ الرجل الغارق في نومٍ عميق، ثم راح يهزّه من كتفه. استيقظَ الغريبُ ونظرَ إليها بصمت باردٍ لامعنى له. كان له وجهٌ أسمرهزيل ووجنتان ضامرتان بينما غارت عينان سوداوان في محجريهما. نهضَ من مكانه جارّاً قدمه بيده، وغادرَ الغرفة بصمت. لم يكن معه حقيبة أو صرّة أو أي شيء من متاع الدنيا. شيءٌ ما جعلَ الكلامَ يتوقفُ في حنجرة الأخ. لعلها ثيابُ الغريب وقد بدت كأنها كانت تخصّ أحد المرموقين قبل أن تتمزّق وتبلى وتتسخ، ولعله صمته الغامضُ. لمّا رأى أفرادُ العائلة الغريبَ الشريدَ يغادرُ من باب البيت الذي نسوه مفتوحاً طوال الليل اندفعوا يقولون:

- من هذا؟ أهو معتوهٌ؟

- كان يجب الإمساك به وتسليمه إلى الشرطة. لعله مجرمٌ هاربٌ من السجن.

والتفت أحدهم إلى أخته منبّهاً: لا تنسي أن تغسلي أغطية السرير وتعقميها، فربما كان يحملُ جرثوما خطيراً.

وراحوا يلومون أخاهم لأنه تركه يمضي دون أن يعرفَ شيئاً عنه، أما هو فأجاب بحزن:

ليتني قدمتُ له بعضَ الطعام! إنه هزيلٌ جداً! وأظنه يموتُ جوعاً.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي