هواجس النهاية

2021-07-05

محمد زعيزعة*

ربما كانت خسارته كبيرة، أو صغيرة، لا يدري… ولم يكبد نفسه عناء الاطلاع على ما يحدث ليقيمه ويزنه، وأحس أنه يفقد خيطا رفيعا من خيوط معركته مع الزمن، نعم.. فقد الخوف من الخطر، وكأن الزمن بات يترفع عن مقارعته، فتركه نهبا لفراغه، فإذا سُئل عن الموت، أو مرّ أمامه، لا يشعر بشيء،

ويقف في مكانه يتأمل طويلا، ويتذكر عبارة أحد أساتذته، بعد أن عرض عليه شيئا زعم في ذلك الوقت أنه قصة، «الحدث الرئيسي في قصتك هو اللاحدث» وقعت كلمة «الحدث» في ذهنه موقعا غريبا، نصب صنارته، واعتزم أن يصطاد ذاك الصوت الذي غاب طويلا، إنه يشعر بفقدان نفسه، وفي كل مرة يكتشف أنه يفقد أشياء حسب نفسه في ما مضى أنه امتلكها.

وفجأة توقف، فقال بنبرة حادة «آه، يا دنيا… لا تعبثي معي، وإلا عضضت…» لم يكمل جملته، وضع يده على فمه وكتم ضحكته بطريقة طفولية، ولم ينتبه أبدا لالتفاتات المارة، بل انتبه للمغيب، فحث الخطى نحو البيت، لكنه توقف مرة أخرى، تنهد تنهيدة سقطت لها كتفاه، وأسر لنفسه:» لقد فقدت الليل أيضا».

عندما وضع فنجان القهوة فوق الطاولة، فتح النافذة التي تطل على سماء لم تظهر له فيها معالم النجوم، ولم يسعفه نظره الضعيف في إنجاز ذاك التدقيق الذي كان ينتهي، في ما مضى، بالعثور على نجمة شاردة من بين ثغرة في السحب الكثيفة، كما أن الماضي لم ينسج له في بيته الصغير طيف امرأة، يسترجع كلما جلس في المساء ذكرياته معها، لم يتزوج، بل استسلم لتلك الفلسفة التي تشفق على أبناء لم يأتوا للوجود بعد.

أما إذا أحس بالهزيمة، أو استفزه مشهد الأطفال في الحديقة يضحكون، فإنه يهيم في الشوارع بلا وجهة، ويمتحن أفكارا وتأملات أخرى تعزز قناعته، وتصرف عن عينه مشروع دمعة هي تتويج لخيبة، يعرف في قرارة نفسه أنه لا يوجد من يواسيه فيها.

رشف من القهوة، وتذكر تلك الجلسة المصيرية التي رسخت قناعته، بعد عدة أيام من زواج صديقه، «ما اسمه؟» وحاول جاهدا التذكر، لكنه لم يفلح، ولم يشعر بالضيق، لأنه يؤمن أن الحياة تسترد ذكرياتها وتحيلك في نهاية الأمر فارغا، فعندما تولد، تكون عاريا من الملابس، أما عندما تموت، فالحياة تحرص على أن تذهب عاريا من الذكرى. قال له صديقه ذاك اليوم، وبصوت ينطوي على شفقة:

إن هناك قرارات نتطابق فيها مع الآخرين، لكن هذا لا يعني أننا مسلوبو الإرادة، فينبغي أن لا نقف ضد الطبيعة، إن الأمر شبيه بكوننا بشرا، لكننا مختلفون في طرق تصريف بشريتنا وإنسانيتنا.

وقد علم، في ذاك الوقت، أن استراتيجية صديقه في الخطاب استراتيجية دفاعية، أو بالأحرى، فإن صديقه يحاول أن يثبت لنفسه أن ما قام به هو الصواب، وأن تجربته يمكن أن تشذ عن قاعدة ما عاينه هو من تجارب، لكن حتى إن صح افتراضه، فإنها ستبقى تجربة شاذة في اختلافها، لأن طبيعته الصارمة والواقعية،

تأبى أن تنتصر لقناعة عاين بالملموس فشلها، كما أن أمل نجاحها شبيه بأمل جمهور الرجاء في انتصار فريقهم على برشلونة هذا المساء، لكنه قرر في ذلك اليوم أن يعيد النظر في قناعته، إذا انتصر فريق الرجاء.

بعد وجبة العشاء، مسح فمه وجلس مرة أخرى على الكرسي المقابل للنافذة، وأحاله المطر المنهمر على فكرة تهرب منها طويلا، «هل يكون اختياري ناجما عن غياب الإيمان؟ وهل كان الفلاح سيحرث أرضا ويزرعها بغياب الإيمان في هطول الأمطار؟.

ورغم هذا، فإن الإيمان لا يخلصنا من هواجس تتوطن بين الربح والخسارة، بين الفشل والنجاح، والفلاح، آه يا صديقي الفلاح، لو تفكرت قليلا، ولو قليلا، لأصابك الفزع، ولعلمت أنك قد تكون طرفا في جرائم كثيرة، فقد يُصنع من قمحك خبزا لقاتل، مغتصب، قاض ينوي إدانة بريء بتهم ترسله وراء الشمس، وراء الشمس.. وراء الشمس.. أين سمعت هذه الكلمات؟» وقبل أن يسرقه النوم، مال بعنقه إلى الجانب الأيمن

كأنه يبحث عن شيء، لكن يد السهوم أزالت عن عينيه يقظتهما، وغرق في ذكريات كثيرة.. وصله صوت أبيه، ووصلته ضحكة أول فتاة أحبها، وأحس أن ذاكرته انتعشت، «ياسمين» نطقها في صمت، وكرر كلمات لطالما كانت له بمثابة العزاء في فشله في استمالة قلب الفتاة، «كيف تحب ياسمين من نبت في حقل

من الشوك؟» وأحس أنه غادر واقعيته بهذه الكلمات، وعاد صوته ليخبره: «ياسمين لم تحببك لأنك كنت عاجزا عن منافسة أقرانك، ولأن الكتب التي التهمتها لم تساعدك في رد تلك القبضة التي غرزها ذاك الأحمق في وجهك أمامها.. قسوة الحياة.. قسوة الحياة هي أن يزرع القدر في قلب فتاة الشفقة ناحيتك، في

حين، كنت تريد أن تزرع في ذاك القلب الحب». ضحك ضحكة استخفاف، وتذكر يوما قال فيه لصديقه: «يجب أن نختار بين زوجة أو ماخور»… إن ما أضحكه هو أنه كان في ذلك الوقت يعتبر أن اختياره سيرسو على الزوجة، وكلماته لصديقه لم تكن تقدم اختيارا بقدر ما كانت تقدم إجابة.. لقد اختار الماخور،

أو المواخير، وكان يعتبر أن الحياة نذرته لإضفاء نكهة الاستثناء على حياة تلك النساء، فكم آنس ليلهن بكلماته التي تتأمل الوجود والخلق، كلمات تحاول أن تبحث عن المعنى في ما تعيشه تلك الأجساد، تواسيهن، تجزل العطاء لهن، وكم كتم دموعه في حضرة قصص أطفأت شهوته، وجعلته يتحسس عجزه في جعل حياة الآخرين سعيدة.. قال لنفسه، «لو كانت الأمور بيدي، لجعلت كل الناس سعداء» لكن صوتا ماكرا تسلل إليه وسأله: «حتى صاحب اللكمة؟» طوى الموضوع بعد هذا السؤال، تنهد، مطط شفتيه، ونام فوق الكرسي.

طرقات على الباب، «طرقات؟» لم يتبين أول الأمر أهي حقيقة أم جزء من أحلامه، «لكن، كم الساعة؟» إنها الثالثة صباحا.. لقد اعتزل السياسة منذ زمن، ولم يعد يخط مقالات حول التغيير الجذري، أو نظرية تنظيف السلالم، الطرقات تزداد قوة، ودقات قلبه التي تسارعت بينت له أنه لم يفقد حاسة الخوف، حاسة الخطر، وهزم هواجسه أخيرا، وقال: لا وجود لشيء عند رجل على شفا حفرة النهاية ليأخذه الناس»..

فتح الباب أخيرا، كان الطارق شابا يافعا، قوي البنية، دخل دون استئذان، جلس على الأريكة، أشعل سيجارة، وترك الرجل على حاله، مشدوها، فاغرا فاه، يستغرب هذه الجرأة، أو هذه الوقاحة، لكن عقلانيته أعلنت أن هناك سببا وجيها يدعم تصرف هذا الأخرق، وإلا، ما كان ليتجرأ على بيته بهذه الطريقة المستفزة

أغلق الباب بلطف، أدار كرسيه ليتقابل مع الشاب، جلس بهدوء، تطلع فيه وهو يلتهم سيجارته، وينثر رمادها فوق السجادة، لقد كان يشيح بنظره، ويدير عنقه ناحية النافذة في شرود، ولم يجرؤ هو على قطع حبل تأمله، وقرر ألا ينبس ببنت شفة حتى يبادله ضيفه القسري الكلام.

أكمل الضيف سيجارته، نهض بهدوء، وتوجه إلى غرفة النوم، أحضر وسادة، ووقف أمام صاحب البيت، لكن السؤال الذي قفز إلى ذهنه في تلك اللحظة، بعد أن غطى الشاب زاوية نظره بجثته الضخمة:» إن الوسادة أخف من أن يحملها هذا الشاب القوي بكلتا يديه».

 

  • كاتب من المغرب






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي