بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية.. من تفكيك القطيعة إلى تجاوزها عند ساري حنفي

2021-07-01

 عالم الاجتماع الفلسطيني ساري حنفي

عثمان أمكور

يرى علماء اجتماع عرب أن مبدأ التكامل بين العلوم والمعارف لا يمكن إلا بتحقيق التكامل بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية، وغيرها من العلوم، وردم الهوة، ومد الصلات بين تلك المجالات المعرفية.

وفي محاولة لاستطلاع آفاق محاولة التجسير تلك، كان هذا الحوار مع عالم الاجتماع الفلسطيني ساري حنفي الذي يشغل منصب أستاذ مشارك في علم الاجتماع بالجامعة الأميركية في بيروت ورئاسة الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، حول مضامين كتابه المعنون بـ "علوم الشرع والعلوم الاجتماعية: نحو تجاوز القطيعة (أليس الصبح بقريب) " والذي يسعى من خلاله لتجاوز التقابلات الضدية بين العلوم الاجتماعية والشرعية، والسعي نحو الجمع بينها من خلال التحصيل العلمي المزدوج بين التكوين الشرعي والتكوين في العلوم الاجتماعية.

   

يرى علماء اجتماع عرب أن مبدأ التكامل بين العلوم والمعارف لا يمكن إلا بتحقيق التكامل بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية، وغيرها من العلوم، وردم الهوة، ومد الصلات بين تلك المجالات المعرفية.

ويحاول الكتاب -الصادر عن مركز نهوض لدراسات والبحوث سنة 2021- بناء ذهنية مزدوجة ذات نظرة متفتحة حول الدراسات الإسلامية والاجتماعية، لذا يستهدف المختصين في المجالين الشرعي والاجتماعي، وهذا من شأنه أن يوفر أرضية لحوار مستقبلي عابر للتخصصات حسب تصور الأكاديمي حنفي.

بين الديني والاجتماعي

تظهر أبعاد القطيعة المعرفية نتيجة سياقات أيديولوجية بين الديني والاجتماعي، يمكن لمسها في النقاشات التي يمكن أن تجمع بين المثقف اليساري والديني حسب تصور حنفي، وهو ما يفرز نقاشا "صراعيا" بحسب تعبيره، ولا يفسح المجال نحو عقلنة للخطابات السائدة، بل يتيح فقط تجييش الخطاب اليساري ضد الديني أو العكس.

وتؤدي تلك الحالة لاستقطابات حادة تتحول حسب حنفي إلى "مادة غنية للجماهير لتعميق الفكر التكفيري بأشكاله العلمانية أو الدينية أو المزدوجة، لتجعل من الثنائيات القطبية تطفو على السطح مثل (وطني/خائن) و(مقاوم/عميل) وهي ثنائيات تعادي البناء الطبيعي للمجتمعات السليمة".

 مؤلف الأكاديمي ساري حنفي

وجزء من هذه المشكلة كامن في المناهج التعليمية المتداولة في كليات الشريعة أو الدراسات الإسلامية بالجامعات العربي من خلال دراسات حالة في المشرق والمغرب العربيين، يتابع الأكاديمي العربي.

ويرى حنفي أنه يجب عدم "اختزال الدين في الفقه، والفقه يلزمه فهم للأخلاق؛ فتنزيل الفقه على الواقع يحتاج إلى أدوات علمية كانت تتطور وما تزال في بوتقة العلوم الإنسانية عامة والعلوم الاجتماعية خاصة، فمن أهم وظائف هذه العلوم ربط الممارسة الدينية والانتماء الديني بالظواهر الاجتماعية الأخرى، ودراسة كيف تتم مأسسة هذه الممارسات من خلال مؤسسات اجتماعية دينية".

من الجوامع إلى الجامعات

يعتبر حنفي أنه "لا يمكن اختزال تاريخ التعليم الديني في حيز صغير، فهذا يحتاج إلى دراسات طويلة" مشيرا إلى أقدم وأعرق 3 جوامع تحول التعليم فيها إلى جامعات وهي: الزيتونة والقرويين والأزهر.

ويرى أن "انتشار المدارس الدينية وكليات الشريعة كان في أنحاء العالم العربي والإسلامي كافة؛ حيث لا يمكن تخيل أي مدينة إسلامية دون مؤسسة تعليمية شرعية.

 وقد أنشأت هذه المؤسسات غالبا من الجماعات المحلية، حيث تحالف العلماء مع طبقة التجار المتوسطة العليا والتي مولت معاهد الشريعة، والمساجد والجمعيات الخيرية التي تضاعفت بعد الاستقلال من الاستعمار. لقد كان التعليم الديني داخل حلقات دراسية غير رسمية حتى منتصف القرن 19 قبل تحول بعض الجوامع إلى جامعات".

وقد انتشرت هذه الحلقات "في كل مكان" تحت مسميات مختلفة مثل الكتاتيب في المشرق والخلوات بالسودان، وهو أمر لم يؤثر في الرأس المال الرمزي للعلماء التقليديين.

فقد حافظ هؤلاء على استقلالية كبيرة فيما يتعلق بتدريب رجال الدين الأصغر، فلم تستلزم مأسسة التعليم الديني المتخصص في القرن 20 زوال "آليات التقليد الاجتماعي".

أسلمة المعرفة ليست الحل

وإذ يدور نقاش طويل حول ربط العلوم الاجتماعية بالأسلمة بهدف توطين هذه العلوم التي يراها مناصرو الأسلمة أنها غريبة وتحتاج إلى تنقية من أجل مواءمتها مع روح الإسلام؛ يعتبر الأكاديمي والمؤلف الفلسطيني أنه ليس هناك مشكل في "استخدام تعبير علم اجتماع إسلامي أو عربي أو لبناني أو جزائري، ومن أن يستوحي هذا العلم بعض مفاهيمه من التراث، وأن تطبع وتلون نظرياته من وحي واقع المجتمعات".

ولكنه يرى وفق "تحليل مضمون كثير من عدد كبير من المقالات والكتب والأطروحات الجامعية" تتبنى هذا الاتجاه أن "إضافة توصيف جغرافي أو ديني للعلوم الاجتماعية يطرح إشكاليات حقيقية، أقلها أن فيها عطب ابستمولوجي وكسل أمبيريقي".

ويضيف الباحث المختص في سوسيولوجيا الهجرة واللاجئين "تشدد الخطاب العربي والإسلامي الراهن في مسألة الخصوصية الثقافية يبتعد عن فهم واقع مجتمعاته وتأثير أنظمة معرفية مختلفة من جراء العولمة.

 كما يرى حنفي أن "هذه الهواجس الوهمية تحول الخصوصية الثقافية إلى صيغة تبرير لإخفاقات المجتمعات العربية وتضر بفرص تطورها ولحاقها بركب الدول العلمية" ويتابع "من الضروري نقد المركزية الأوروبية للعلوم الاجتماعية، ولكن يجب ألا نختبئ وراء أصبعنا".

وتكون الأزمة الأساسية حسب حنفي في "انكفاء الكثير من الباحثين على أنفسهم داخل منهجيات اقتباسية واجترارية وفقر نظري.

 بكلام آخر يجب ألا نقع في أسطورة فرادة الوطن العربي أو ثقافته العربية الإسلامية. ومن ثم لا يعني هذا طي صفحة الخصوصية الثقافية، فهي عماد التنوع، بل يعني تحويل هذه الخصوصية من متاريس نختبئ خلفها إلى معين لا ينضب ولا يقتصر علينا، بل يتدلى ليسقي أرواحا عطشى من عذوبة مورده. فلم يكن التراث ولا الخصوصية الثقافية نصين عذريين".

نموذج الاجتزاء المعرفي

يقدم حنفي في طرحه ملاحظة مفادها أن هناك مبالغة في استخدام طرح ابن خلدون في العلوم الاجتماعية، وهو ما يعكس خلل التصور بين العلاقة الرابطة بين التراث والعلوم الاجتماعية، مشيرا لمفهوم "العصبية" بحكم أن استخدامه لم يراعِ من جهة تقلص دور القبيلة، ومن جهة أخرى تمدد سردية الدولة الوطنية.

وهنا يقول "مفهوم العصبية يتجاوز البنية القبلية، ويفسر بعض جوانب السلطة.

لكن السلطة بمعناها الحديث تتجاوز الاختزال على آلية العصبية لفهم السلطة. السلطة ظاهرة معقدة تستلزم تفعيل نموذج نظري معقد يقرأ فيه ابن خلدون مع كارل ماركس وميشيل فوكو، وليس إما هذا أو ذاك. احتجاجي غالبا له علاقة بـ "إما هذا أو ذاك" الذي يضر بالعلم.

الأخلاق تربط علوم الشريعة والاجتماع

يرى حنفي ضرورة استعادة الجانب الأخلاقي في الشريعة والعلم؛ وهو هنا يستخدم مفردة "الاستعادة" التي يمكن أن تشير للغياب، وفي هذا الصدد يؤكد "غياب المقاربة الأخلاقية في عملية إنتاج الفتوى والقول الفقهي" مشيرا إلى أن "المطلوب هو قلب الأولويات بفهمنا للدين: تثبيت الأخلاق (بوصفها روح الدين) وتحريك الفقه والتشريع لمناسبة الأخلاق.

أي إذا اعتبرنا أن السرقة مذمومة أخلاقيا في كل زمان ومكان (وفعلها لا يكتسب صفته الأخلاقية من المنفعة والمضرة التي تنتج عنه، بل من طبيعته بوصفه انتهاكا لوجه من وجوه الحق والعدل، والإنسان يرغب في العدل كما يرغب في اللذة) فإن حكم السارق يتناسب مع السياق الزمكاني وحجم السرقة ودوافعها".

وهو ما يتم حسب حنفي "من خلال ربط الدين -لا بوصفه تشريعا ولكن بوصفه أخلاقا- بالعلوم الاجتماعية، بحيث تتعاون علوم الشرع والعلوم الاجتماعية في عملية التشريع، مستوحيين من فهمهما لمصادر الأخلاق (من الدين والفلسفة الأخلاقية)".

ويختم "بدلا من اعتبار الشريعة (الأحكام الفقهية) هي المصدر الرئيس للقوانين، سواء كانت أحوالا شخصية وشرعية أو قوانين وضعية، والتناحر على الحدود الفاصلة بينهما، وهو ما اعتادت كليات الشريعة تدريسه، سيتم الاعتراف بأن العلاقات البشرية تحكمها نظم تتجاوز التقنين، فمنها ما هو مرتبط بالأعراف والتقاليد المتوارثة ببساطة، ومنها ما هو أحوال شخصية وأحكام شرعية، ومنها ما هو سياسي (المواطنة، تقنيات الحكم، الضرائب.. إلخ) وكلها يمكن للدين أن يتدخل بصفته أخلاقا".

 

 

 

 

 

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي