قطعة العجين أداة فنية لقراءة المستقبل وتغيير العالم

2021-06-28

عالم مواز مستوحى من طقس

شريف الشافعي*

تنحاز الفنانة التشكيلية المصرية سماء يحيى، برؤيتها وخاماتها إلى روح الفن وبساطته، رغم أكاديميتها واستفادتها من أحدث المذاهب الوافدة في التصوير والنحت، تطلق أعمالها الحداثية من تربة محلية وحياة شعبية تتسع للموروث واليومي والعابر الذي يعيد الإنسان إلى ذاكرته، والأشياء إلى حقيقتها، بصيغ معاصرة.

في هذا الحوار تطرقت الفنانة سماء يحيى، إلى تجربتها، وسلسلة معارضها المتتالية وأحدثها “عرايس الخبيز”.

تستوحي سماء يحيى في معرضها الجديد “عرايس الخبيز” (22 يونيو- 3 يوليو) في قاعة الباب بساحة دار الأوبرا المصرية مقولة الفنان السويسري ألبرتو جياكومتي “إن هدف الفن ليس إعادة تمثيل الواقع، بل إنتاج واقع آخر مغاير على نفس درجة التركيز” لتقدم مجموعة من الأعمال النحتية البرونزية المبتكرة تمثّل عالمًا موازيًا استوحته من طقس “صناعة الخبز”.

   

تشكيلات معرض الفنانة التشكيلية سماء يحيى تنحاز إلى البراءة والسذاجة حيث خيالات الطفولة الأولى التي تتعامل معها بحرفية فالفن لديها هو لعب عفوي بالأشكال.

وفي معرضها تصوّر الفنانة خيالاتها حول: إيزيس الخبيز، عروس الكعك، خيال المآتة، اللعبة، الفلاحة، رقصة الحصان، الطائرة الورقية، وثبة الفنان وغيرها من المشاهد بجانب عمل مركّب لأدوات الخبيز التقليدية في البيوت الريفية.

لهو طفولي

سماء يحيى تحرص على الإمساك ببدائية الحلم

يتوّج المعنى العميق للتفاعل فلسفة يحيى الفنية عبر سلسلة معارضها الأخيرة في التصوير والنحت والأعمال المركبة، ومنها “عرايس الخبيز”، “حكاوي القهاوي”، “بلد المحبوب”، “حلاوة زمان”، فهي بموضوعاتها التراثية وتداولها الخامات الحميمة والمفردات العادية والأدوات المصنّعة والبقايا المهملة لا تقصد انكبابًا على

الماضي وعودة إلى دفاتره الممزقة، وإنما تدشّن عبر أحدث النظريات والتقنيات كتابة جديدة للبشر والأحداث والأشياء والظواهر بروح العصر، قائمة على استكناه الجوهر، والوصول من أقصر الطرق، واستكشاف الومضات الذائبة في الضمير.

تشير الفنانة في حديثها إلى أن قطعة العجين في معرضها “عرايس الخبيز” أداة فنية طيّعة تتجاوز استعمالاتها الطبيعية لتقود إلى محاولة قراءة المستقبل والسعي إلى تغيير العالم، ولمَ لا، والفن والخبز والحرية أبرز سبل استعادة الإنسانية الغائبة؟

وتتابع لقد سَمّى الأجداد الخبز “عَيشًا” واقترن “العجين” بمناسبات الحياة واليوميات المختلفة، فهناك معجّنات ومخبوزات في الأفراح والأعياد وفي المآتم وزيارات المقابر وسائر المواسم والمراسم، وصوّرت الحضارة الفرعونية سنابل القمح والشعير وهي تنبت من صدر أوزوريس وتحوّلها إيزيس إلى أرغفة خبز.

تنحاز تشكيلات المعرض إلى البراءة والسذاجة، حيث خيالات الطفولة الأولى، التي تتعامل معها بحرفية لا يمكن الإمساك بها، فالفن لديها هو لعب عفوي بالأشكال، من غير حسابات، ودون قيود.

الفنانة تحيي مفردات التراث وعناصره في صيغ معاصرة من خلال معرضها النحتي الجديد حول طقوس صناعة الخبز

وتقول يحيى “أحرص على الإمساك ببدائية الحلم، بدءًا من انتقاء آلية السبك بالرمل للحفاظ على الملمس والبصمة والتجاعيد والثنايا، انتهاء بالتلوين الذي يراعي عوامل الزمن بإضافة ذلك اللون المعبّر عن الصدأ. هذه المعالجة المختلفة للعلاقة بين الكتلة والفراغ تنشد العوالم البكر للفن، الذي كان ينتجه القدماء كغاية جمالية مجردة. هي ببساطة لحظات تخليق حرة، تعكس مشاغبات طفلة تلهو بسعادة، وترجو حماية طقس شعبي من الاندثار”.

تعنى سماء يحيى في تجربتها الممتدّة من خلال النحت بالأدوات المصنعة، والمواد سابقة التجهيز، وهو فن يختلف في فلسفته ورؤيته عن استعمال المخلفات، إذ يتفق في زوال الغرض النفعي وتحويله لشكل جمالي صرف، لكن لكل أداة مستخدمة شخصيتها وروحها في العمل الفني، وهو نمط من أنماط النحت عرفته

أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى، وارتبط بحركة الدادا، وكان مارسيل دوشامب رائده، وشجعه السرياليون، ووضع أندريه بريتون وبول إيلوار تعريفًا له على أنه اختيار غرض نفعي اعتيادي يستعمل في الحياة العملية، وترقيته ليصبح فنًّا على يد الفنان، وانطلق هذا الفن إلى الولايات المتحدة، وظل عقودًا طويلة مرتبطًا بالثقافة الغربية، ونال اهتمام بيكاسو وروشنبرغ ولويس نيفلسون وآخرين.

في هذا المضمار، قدّمت الفنانة معرضيها السابقين “حكاوي القهاوي” و“بلد المحبوب” في التصوير والتكوينات النحتية المتشابكة الباذخة، في محاولة لتوليد حالة من التجانس بين وسائط فنية مثل رسم الزيت ومنحوتات البرونز والنحت الخزفي، وتحقيق تفاعل بينها وبين الأخشاب القديمة وأقمشة الخيام.

وتؤكد يحيى في حوارها أن ما يجذب في هذا النوع من النحت أنه بمثابة مفاجأة ودهشة للفنان، قبل أن يكون للمتلقي “أنت لا تستطيع أن تحدد الشكل الكلي للمنتج الفني قبل انتهائه، كما أنك قادر على الإضافة والحذف منه في أي وقت، بحسب رؤيتك، فهو لعبة وتحدٍّ للنفس، للحفاظ على القواعد وكسرها، والحوار مع الأشكال والتكوينات، فالمادة المستخدمة هنا لها خصوصيتها ولها حياتها وماضيها وذاكرتها، قبل أن تصبح عملًا فنيًّا. أنت تتعامل مع كائن كان حيًّا، وتحاول إعطاءه بعدًا حياتيًّا جديدًا”.

في أعمالها غير النمطية تعيد الفنانة مثلًا تقديم ماكينات الخياطة القديمة وصندوق مسح الأحذية و”صندوق الدنيا” والمراكب الخشبية و”كوشة” العروسين والكراسي والتلفزيون و”الشيشة” وغيرها من مفردات المقاهي والبيوت في تكوينات مغايرة تنطق بالنوستالجيا (الحنين إلى الماضي) وبلغة الحياة المعاصرة في آن.

وحتى في التصوير، فالرسم على الخيام هو أيضًا تحدٍّ تخوضه الفنانة لتقديم الجديد وغير المتوقع، فالتصميم الأصلي للخيمة، وأحيانًا التمزقات والخياطات والبقع، تفرض ابتكار حلول واستخدام تقنيات لم تكن في الحسبان.

حمولة عاطفية

 تتسع تجربة يحيى لمصر بأكملها وكأن الوطن في حالة من الاسترخاء بعد يوم عمل شاق وطويل

تتسع تجربة يحيى لمصر بأكملها وكأن الوطن في حالة من الاسترخاء بعد يوم عمل شاق وطويل، فالنساء بكل الرقة والانتظار والرخاوة والهدوء يقمن في “بلد المحبوب”، والرجال بكل الصخب والزخم واللعب و”الدوشة” (الضجة) المميزة للشعب المصرى في “حكاوي القهاوي”، يربطهم جميعًا عالم الفرح، و“الكوشة” التي تجمع العروسين.

إن قصة كل يوم في البيوت المصرية منذ بدأت الحياة حتى يومنا هذا تشير إليها منحوتة المركب، التي تحمل البنات في بلد المحبوب، لأن المرأة هي التى تقود مركب الحياة من البداية إلى النهاية لتصل الأسرة لأداء دورها الكامل.

وتقول يحيى ، “مفرداتي الرئيسية بسيطة وحميمية، قريبة للمُشاهد، فهي كلها أدوات ذات تاريخ، ارتبطت بحياة بشر، وعاشت معهم، تنفست الهواء ذاته، وعاشت تفاصيلهم وسمعت حكاياتهم، ولقد تركوها ورحلوا، أجيالًا وراء أجيال، فأصبحت أدوات ذات هوية وشخصية”.

تتعاطى الفنانة مع أدوات يومية مألوفة للمتلقي، لديه معها خبرة طويلة وتجربة عاطفية، مثل ماكينة الخياطة والطاولة وأدوات القهوة وخيام الفرح والصوانات وأدوات الزراعة وأكواب الشربات وغيرها، محاولة خلق عمل فني محكم، يحافظ على الجماليات الفنية، ويدهش المتلقي، وهذا هو التحدي الحقيقي.

وتسعى إلى استفزاز رؤية المتلقي وذائقته، ليرى أن الجمال موجود في أبسط الأشياء، وفي كل الأشياء، وليخرج من تلك الفجوة التي تفصل بين الفن التشكيلي والمواطن العادي، حيث يتصور الأغلبية أن الفن التشكيلي ظاهرة فوقية يهتم بها المختصون والقادرون ماديًّا فقط.

   

 

قطعة العجين أداة فنية طيّعة تتجاوز استعمالاتها الطبيعية لتقود إلى محاولة قراءة المستقبل والسعي إلى تغيير العالم

وتنفي الفنانة هذه النظرة قائلة “إننا أبناء أقدم حضارة في العالم عبرت عن نفسها بالفن، قبل أن تعبر باللغة، فنحن من وضع أغلب قواعد النحت المعمول بها حتى اليوم، وما زلنا نعبر عن أفراحنا وسعادتنا وتديننا بالرسم على الحوائط وصناعة عرائس الحلوى، وإن كان هذا قد أوشك على الاندثار مع اختلال منظومات القيم.

أحاول كسر هذا الحاجز للوصول إلى الناس، لكي يروا أنفسهم وما يحبونه وما استعملوه وما زالوا يستعملونه كل يوم؛ وقد أصبح فنًّا وبهجة، فنًّا يرتقي بهم ومعهم، ولا يتعالى عليهم”.

في معارض سماء يحيى، وأعمالها الفنية عمومًا، يبدو المتلقي العادي هو المستهدف بشكل أساسي، وتؤكد الفنانة أن تفاعله وانفعاله بالعمل الفني هو المكسب الحقيقي “استخدام الأدوات ذات التاريخ ليس سهلًا، فإما أن تصل إلى قلب المتلقي وعقله، وإما أن يجد فيها غرابة منفرة.

ولكي تصل له، يجب أن توجد حلولًا لمعادلة صعبة، ولعلني نجحت في حلها من خلال ما لمسته من تفاعل الجمهور مع الأعمال والقدر الكبير من الحميمية بين المتلقي والعمل وما يحكيه من ذكريات وما يفجره من دهشة”.

ولا تغفل الفنانة المصرية الأطفال وصغار السن في أعمالها التي تستثير فضولهم، وتقول مختتمة حديثها  “أعتقد أن المد العولمي سرق منهم ومنا الكثير من البهجة، وأفقدنا الكثير من هويتنا وخصوصيتنا وخصوصية الفن، ولربما تتيح أعمالي فرصة ليتعرف جمهور الصغار على أشياء ارتبطت بحياة أجدادهم وآبائهم، فلديّ دائمًا أمل في استمرار حالة حيوية تنتقل من جيل إلى جيل”.

 

  • كاتب مصري

 

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي