قصتان قصيرتان

2021-06-04

كولالة نوري*

 

شرفتان

نفخت على زجاج النافذة بكسل لتصنع هالة من الضباب الأبيض، تحجب الرؤية عن بياض الثلج خارج نافذة الشرفة الخشبية المقفلة بإتقان ربات البيوت، اللواتي لا يخرجن إلا للضرورة الملحة. وكأنها تعاكس نفسها التي لا تستطيع البقاء يوماً واحداً دون أن تخترق شوارع مدينتها الصغيرة بحجة شراء أشياء قد لا تحتاج إليها فعلاً. كأن تكون مقلمة لقلم رصاص لا تستخدمه إلا قليلاً.

رسمت صورة قلب على ضباب زفيرها، خربشت بإصبع السبابة على القلب بخطوط ذات اليمين. وذات اليسار، ببطء، ثم بسرعة أقرب إلى الضجر أو إلى العصبية قصدا، لتجمّد أطراف أناملها. بدأ البرد بالدخول في يديها القريبتين من الزجاج، لم تحركهما. شرفتها تطلّ على الجانب الخلفي للعمارة حيث طريق ضيق للمارين باتجاه الشارع الرئيسي.

لمحت امرأة تكاد تكون في الثلاثين من عمرها وهي تمشي جانب البناية تلبس قلنسوة طويلة من الفرو الأسود تناسب تماماً الصقيع الذي يغطي الأشجار المتلألئة بثلوج ليلة أمس، وكأنها ألماس وهي تبعث انعكاسات بين فينة وأخرى حين تضربها أشعة الشمس مخترقة الغيوم الثقيلة بجرأة، وتدفعها بقوة يائسة إلى الرحيل قليلاً عن السماء.

تتوقف المرأة كل بضعة أمتار راجعة إلى نقطة البدء. «بماذا تفكر؟» قالتها (ندى) لنفسها تزامناً مع رفع المرأة لنظرها إلى البناية وباتجاه شرفة الطابق الخامس حيث تقطن ندى. ارتبكت وعدّلتْ من خمارها الصوفي على ملابسها المنزلية الخفيفة وشعرت بالحرج من كشف المرأة لمراقبتها لها.

بينما هربت الأخرى بنظرها وكأنها خجلت مما قد تفكر راصدتها من علوها من كونها تمارس فضولاً في مراقبة الشرفات من تحت.

أشعلت المرأة سيجارة ووضعت ظهرها بوجه البناية. تخيّلتها (ندى) تقول في سرّها «فقط دعيني وشأني، لا يهّمني لماذا أنتِ كسولة في البيت شعثاء بملابس النوم والساعة قد تجاوزت الحادية عشرة صباحاً، الأحرى أن تحركي بدنك المدلل في بيتك لا مراقبة الآخرين!».

ضحكت ندى من افتراضها هذا الرد، وبرفق تركت الشرّفة مع ضحكتها المكبوسة الإيقاع التي بدأت في التلاشي بسرعة لتتحول إلى ابتسامة ثم إلى تقطيبة نادمة للحاجبين مع نزول دمعة واحدة فقيرة، وكأنها نهاية بكاء.

سمحت لخمارها بالسقوط بسلاسة على أرضية الغرفة المكومة بكتب ومناديل ورقية مستعملة كثيرة امتزجت مع قطع زجاجية متناثرة على ممشى قدميها، قرب ملابس خروجها، المتروكة بإهمال على الأريكة بعد عودتها ليلة أمس حين قال لها حبيبها أتمنى لك حياة سعيدة!

«برافوووووووو!» تبع صوت التهليل هذا تصفيق هائل وطويل من جهاز التلفزيون نبّهها تذكّرتْ أنّها لم تقفل الجهاز منذ الليلة الفائتة.

بحركة حانية على جهاز التحكم أقفلت التلفزيون. وكأنها تعتذر عن تركه يعمل الليل كله. دفعت هيكلها بثقل على فراشها ثم سحبت الغطاء عليها وهي تتكوم على نفسها لتتدثر من برد الشرفة الذي بدأت تحسه الآن في جسدها. وبدأت تفكر بالمرأة التي أمام العمارة.

أغمضت عينيها وكأنها تخاطبها وجهاً لوجه: «ربما قلقة بأن حبيبك خانك أو سيتركك - إذا كان حدسي صحيحاً - ستكونين بخير أكثر وبأمان، لا بأس عليك، ستكونين بعيدة بعد ذلك من كل هذا التوتر والقلق».

وجهان

تتفحّص وجهها في المرآة، تتلمّس خديها المليئين بآثار حبوب غائرة قديمة ببطء قلق، عاقدة حاجبيها كديدنها وكأنها تجمع حقد الساحرات الشريرات، شفتاها ترتعشان، وهي تقول بوضوح كأنها تُسمع أحدهم: أكرهكِ.

تتفحص وجهها ثانية في المرآة، تتلمس وجهها بأصابع حزينة لتقول بصوت أشبه بالأنين:

- آآآآآآآآآآآه يا نسيم! وجهكِ الجميل، قهقهاتكِ، عيناك المترفتان بالمرح، أنفك الصغير... شَعركِ الذي تتغنجين به... كلّها تستفزني! صوتك وأنت تردّدين «مشتاكييييييييين»، ابتسامتكِ الواسعة حين يقولون لكِ «اسم على مسمّى»...

في خضم تفكيرها، يهزها صوت الهاتف، ومن أجل أن تخفي توترها عن صاحبة الصوت الآتي ترد بصوت حنو: - نعم عزيزتي نسيم...!

- مشتاكييين آمال!

- وأنا أيضاً كنت أفكر بكِ حقاً!

 

  • شاعرة وكاتبة كردية عراقية

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي