بقي عليهم فقط أن يهيلوا التراب

2021-05-31

من آثار الحرب الأهلية على أحد بيوت بيروت، 2016 (Getty)

ساري موسى*

 

الحاجةُ إلى آخرِين

لم تزعجه مسألةُ العيشِ وحيداً. تأقلم معها متدبّراً أمره على أحسنِ وجهٍ طيلةَ حياته: يزرع ما يأكل، يربّي حيواناتٍ ويصيدُ أخرى، يُقَطّر العَرَق من عنب كرمته، يتداوى بأعشاب الغابة، ويقتلع أسنانه المنخورة بالكمّاشة المعقوفة رفيعة الرأسين.

لكنْ ما أخذ يُقلقه ويشغل باله في الآونة الأخيرة، خاصّةً في الّليالي، هي فكرةُ الموتِ وحيداً. نسمةُ الهواءِ الملائمة التي ستهبُّ على أعلى التلّ هي وحدها ستحمل الرائحة المُثقلة بالنّبأ إلى الجيران المتناثرين في الأسفل.

هذا يعني أياماً وربّما أسابيعَ من التعفّن، بل التّفسّخ والتحلّل الذي سيُحيلُهُ إلى عجينةٍ قاتمةٍ نتنةٍ. أيُّ حاجةٍ مُذِلَّةٍ إليهم للتعامل مع قذارةٍ مُغثيةٍ تخترقها الدّيدان سابحةً في حسائها؟! إنَّ هذا لكفيلٌ ببعثه من موته وإماتته ثانيةً من الخجل والعار، هو الذي جاهد لئلّا يحتاجهم أبداً حتى في كلمةٍ.

انشغل لأسابيع برصف الطريق الترابي بالحجارة، وتسويته وصقله بالمِحدلة البازلتيّة. ثم أفرغ مكتبته وفكّك أخشابها صانعاً منها صندوقاً أضيقَ وأمتن، ركّبَ في أسفله ثمانيةَ دواليبَ صغيرةً: ثلاثةٌ في كلِّ جانبٍ، واثنان في الوسط.

صار ينام في داخله أمام باب بيته المفتوح لا ببيجامته المهترئة، بل ببدلةٍ رسميّةٍ أنيقةٍ تليق بالمقابلةِ القادمة التي لا مفرَّ من إجرائها، متدثّراً بلحافٍ أبيضَ، ثم يقفل على نفسه بالغطاء الخشبيّ المثقّب، ويُصالب يديه فوق الصّدر، بعد أن يُسندَ أحدَ دواليبِ سريره الأخير بمنبّهٍ ثقيلٍ مضبوط، من النّوع المعدني القديم الذي يُسبّبُ الذّعر حين يرنُّ متقافزاً.

في السّابعة من صباحِ اليوم شيّعه جيرانه إلى المقبرة بعد أن تَبِعوا تابوتاً منحدراً من الأعلى، أشار إليه صريرٌ حادٌّ كنفيرِ سياراتِ جمعياتِ دفن الموتى، صادرٌ عن دواليبه، التي دارتْ ببطءٍ وصعوبةٍ، ممّا أكسب الموكب الجلال الموافق لمأتمٍ، إلى أن انزلق في النهاية داخل حفرةٍ حفرها المرحوم قبل بضعةِ أيامٍ.

بقي عليهم فقط أن يهيلوا التّراب فوقه قبل أن يعودوا إلى حياتهم.

■■■

أوّلُ الدّواء

نَزَفَ كلماتٍ إثرَ إصابتِهِ برصاصةٍ طائشةٍ في الرأس، فعرفوا أنّه ممّن يفنون أعمارهم منكبّين فوق الكتب. أسعفوه إلى أقربِ مستشفىً، وشرحوا للطبيب ما شَهِدوه، فراح هذا جرّاء ارتباكه أمام هذه الحالة الفريدة يكتب الروشتّات بخطّه المذعور الذي لا ينمُّ عن أدنى مستوىً تعليميٍّ ويحشوها في الثقب، إلى أن توقّف النّزف الغزير أخيراً، بعد أن حوّل سيارة الإسعاف وممرّات المستشفى وأرضيّة الغرفة وأغطية السرير وأردية الممرضات والطبيب، التي كانت كلّها بيضاءَ كالأكفان، إلى ما يشبه أوراقَ مسوّدةٍ أولى، لكنَّ كمّيته الكبيرةَ جعلتِ الطبيب يرسلهم على وجه السرعة إلى قبو أقدم مكتبيٍّ داخل متاهة الأزقّة العتيقة للمدينة.

عادوا بعد وقتٍ قصيرٍ محمّلينَ بوصفةٍ علاجيّةٍ كاملةٍ قوامها نِسَخٌ عِدّةٌ من كتب الدكتور زيغمونت باومان السّائلة، إضافةً إلى توصيةٍ من المكتبيِّ بوجوب توخّي الحذر الشديد لترجيحه أنَّ الإصابة أخطر مما تبدو، إذ قد تكونُ ناجمةً عن خيبةِ أملٍ. احتار الطبيب أيَّها يُعلّق أولاً على حامل أكياس السيروم ليشرعوا بسكبها في وريده. استبعد الحداثة. وبالطّبع الشّر، والخوف.

احتفظ بالمراقبة إلى الليل لكونها متوفِّرةً حاليّاً ولا حاجةَ إلى المزيد منها. رمى الحياة، لأنَّ مريضه مُشارفٌ على الموت ولا يريد أن يصدمه بجرعةٍ مضادّةٍ قويّة.

بقيتِ الأزمنةُ في يُمناه، والحُبُّ في يُسراه.

تركَ تلك تتسرّبُ من بين أصابعه كما تفعل دائماً، وناولَ الممرّضة ما يجب أن يكون الأهمَّ والأوَّلَ في كافّةِ الأحوال.

 

  • كاتب من سورية






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي