شكاوى عازف من وضاعة آلته

2021-04-15

حسن داوود

ذاك الرجل تُرك بلا اسم. وهذا في أي حال لن يضيره لأن لا أحد سيكلّمه. ذاك أن لا أحد يشاركه الأداء على الخشبة، ثم إنه لن يعتدّ بنفسه فيقول أنا فلان، بسبب إحباطه، كونه يعزف على آلة لا يطيقها. الكونترباص هو أبشع آلة موسيقية بحسب ما يَرى. إنه عائق أكثر مما هو آلة. في وصفه له يقول: لا تستطيع أن تحمله، لضخامته. عليك أن تجرّه جرّاً. لا يمكن أن تدخله الى السيارة إلا إذا طويت المقعد الأمامي. أما في الشقة حيث تقيم، وحيث يقيم معك، فعليك ان تتجنّبه. شكله شكل امرأة بدينة عجوز. الأردان هابطة جدّا. الخصر يدعو للرثاء، عال جدّا. ثم منطقة الكتفين، هذه الهابطة المشوّهة. إنه خليط ممسوخ من عدة آلات.

وفي ما يتعلّق بعازفه فإنه، هو وأقرانه من العازفين على الآلة نفسها، «زبالة الزبالة»، بحسب ما يقول على الخشبة، ثم في مونولوجه المكتوب تاليا*. لا طموح لدى عازف الكونترباص، ولا افتخار من ذاك الذي يشعر به عازفو الآلات الأخرى مثل الكمان، أو البيانو. أما موضعه ضمن تشكيلة العازفين فدائما في الصف الثالث الأخير. في الخلف، وعلى الطرف أيضا. كأنه أُبعد عن العازفين الآخرين، أو عوقب بسبب فعلة ما. يقول أيضا إنه لم يُعرف عن موسيقي، من أولئك الكبار، أحبّ العزف على هذه الآلة الكارثة، باستثناء موتسارت، ذاك لأن ليس هناك إنسان يستطيع أن يعزف عزفا جميلا على الكونترباص.

كل الشتائم على أنواعها راح يكيلها لآلته، هو العازف قليل الحظّ. في الخارج، أعني خارج المهنة التي تستغرق الكثير من ساعات يومه، لا حياة اجتماعية له يعتدّ بها. ولا علاقة غرامية، لا في الماضي ولا في الحاضر. هناك «سارة»، المغنية. يحبّها، لكنه لن يستطيع أن يبوح لها بذلك، بالنظر إلى وضاعة موقعه بالقياس لتميّز موقعها. على الرغم من أنه، بينه وبين نفسه، لا يُقرّ بأهمية المراتب التي توزّع على المغنّين وعلى العازفين كذلك، بمن فيهم المايسترو، الذي لا لزوم لوجوده أصلا. فغالبا ما لا يكترث هؤلاء لوجود هذا الأخير واقفا أمامهم يقوم بحركاته التمثيلية التي بلا معنى.

لا أصدقاء، لا امرأة، لا حياة خارج العمل، لرجل هو الآن في الخامسة والثلاثين. ولا مشاريع للمستقبل، طالما أنه يرى أن الأفق ارتسم نهائيا ولا مجال لمفاجأة قد تأتي. ثم أنه لا يطيق أيّ شيء جديد. هو عالق في الماضي، ففي الموسيقى بقي هناك عند «الكبار» الذين لم يُضَف إليهم أحد منذ القرن التاسع عشر. ومع ذلك لا نجده ممجّدا هؤلاء الكبار. هو يماحكهم، ذاك لأنهم يعرفهم، كأنه مقيم إلى جانبهم وهذا ما يتيح له ملاحظة أخطائهم وهفواتهم. هو ليس في الماضي المحلوم به إذن، المصنوع من الحنين، بل في العالم الذي يبدأ وينتهي في الأوركسترا، حيث يعمل، حيث يعزف.

ذلك الرجل الذي بلا اسم هو بلا معنى، بما يذكّر بالعنوان الذي وضعه روبرت موزيل لكتابه Man Without Qualities. رجل بلا معنى، أو رجل لا يجد لوجوده معنى بات، ومنذ زمن طويل من تاريخ الكتابة الروائية، شخصية نموذجية كثيرا ما كُتبت، أو أُدّيت على المسرح أو في السينما. شخصية كثيرا ما قرأناها أو شاهدناها مستعادة ومكرّرة. ما سوّغ ظهور هذه النسخة الجديدة منها، هو ربطها بتلك الآلة الموسيقية على النحو الذي جعل شخصيّة عازفها ظلّا لها: الكونترباص وقد أرخى بثقله على عازفه مخفضا إياه إلى مرتبة البطولة الثانية، أو على الأقل إلى رجل لا شيء لديه يقوله من خارج تأثير آلته فيه. أن تحتل آلة موسيقية هذا التركيز، المسرحي أو الروائي، لتكون ما يصنع الشخصية الوحيدة، هي الإضافة التي قام بها باتريك سوسكيند لإعادة إحياء الإحساس باللامعنى. هذه هي صدمته التي تميّز بها ككاتب: أن يُخرج الأدب من هياكله المعتادة وقوانينه. كثيرون من قرّاء العالم، كما من مشاهدي الأفلام السينمائية، انجذبوا إلى الصدمة التي أحدثها بكتابه «العطر»، ثم بأقصوصته «اليمامة» تاليا.

الجديد عنده يأتي من المفاجئ والمبهر، ومن إضفاء دينامية فاعلة على ما هو جامد وبلا حياة. في «الكونترباص»، الذي يحتمل أن يكون نصّا مكتوبا على قدر ما هو نصّ مسرحي، أدخلنا في ما لم يكن قد خطر في رأس أيّ منا من قَبل. بنحو ما، يشبه اللعب، لكن، كما في الكونترباص، اللعب القادر على أن يصل بنا إلى عمق الشعور بالدونية، سواء دونية الآلة أو دونية عازفها.

«الكونترباص» نصّ مسرحي أنجزه باتريك سوسكيند في 1980، ثم أعيدت طباعته ككتاب للقراءة في 1984، لقربه من بنية القصّ، وكونه يجري على لسان ممثل وحيد كمونوج غير مقاطع. النجاح الباهر الذي حققه في تأديته على خشبة المسرح تحقّق أيضا في الكتاب الذي نقله إلى العربية سمير غريس وصدر عن دار المدى-2021.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي