مَنْ يُسكت بول روبسون؟

متابعات الأمة برس
2021-04-12

«من موقعي كفنّان، أنا آتي لأغني. ولكن من موقعي كمواطن، سوف لن أتوقف عن النطق باسم السلام، وفي هذا لن يستطيع أحد إسكاتي»؛ تلك هي العبارة الني أطلقها الفنّان الأمريكي الأسود بول روبسون (1898 ـ 1976) واقتبسها المؤرخ الأمريكي مارتن دوبرمان لصياغة عنوان كتابه الأحدث «بول روبسون: لن يستطيع أحد إسكاتي» الذي صدر مؤخراً في نيويورك عن منشورات The New Press. جديد هذه السيرة، كما تجب الإشارة دون إبطاء، أنها تتوجه إلى الناشئة، على خلاف أعمال أخرى كثيرة تناولت حياة روبسون من زوايا سياسية وموسيقية وفي إطار الأبحاث حول العنصرية الأمريكية.

يعدك الكتاب، منذ المقدمة التي كتبها جيسون رنولدز، الكاتب الأسود ذائع الصيت والشهرة، Hنك سوف تقرأ عن رجل أمريكي أسود ولد لأب كان عبداً، وأصبح رغم ذلك رياضياً لامعاً في الجامعة، ثمّ امتهن المحاماة، وانتقل إلى الغناء والتمثيل بعد أن عانى من مختلف أنساق التمييز العنصري، فقدّم أغنيات بلغات عديدة، واضطرّ إلى العيش خارج أمريكا، وبلغ ذات يوم شأو الشخصية السوداء الأشهر على نطاق العالم، والمناضل الشرس العنيد من أجل حرّية شعبه. وكلّ هذه الوعود لا تتحقق في فصول الكتاب الـ14، فحسب؛ بل لعلّ مفهوم «الناشئة» ينحسر مراراً وتكراراً حين لا يكون في وسع الموضوعات أن تتفادى الملفات الحارقة، إياها، التي طبعت سيرة روبسون.

والقارئ، بعد العناوين العريضة لمسارات حياة الفنان والناشط، سوف يتذكّر جيداً أنّ الأب أفريقي الجذور، ولكنه تمرد على استعباد السود في ولاية كارولاينا الشمالية، وقاتل ضد عنصريي الجنوب خلال الحرب الأهلية؛ وأنّ الفتى بول كان أوّل ممثل أسود يؤدي دور عطيل في مسرحية شكسبير الشهيرة، من دون أن يُطلى وجهه بصباغ أسود؛ وأوّل مغنٍّ أسود يرفض الأداء في صالة يحظّر على السود دخولها، أو تشهد فصلاً عنصرياً حسب لون الحضور، فتُلغى حفلاته وحجوزاته الفندقية لهذا السبب. ولسوف يُدخل دوبرمان قارئه في تفاصيل أمريكي اسود كان أوّل مَنْ غنّى للعاصمة الإسبانية مدريد حين سقطت في براثن الفاشية، وأوّل من تغنى في أمريكا بنماذج نضالية أفريقية على مثال جومو كينياتا وكوامي نكروما.

كان طبيعياً، والحال هذه، أن تحاربه المؤسسة الرسمية في طول الولايات المتحدة وعرضها، وعلى مستوى وزارة الخارجية (التي سحبت جواز سفره) مثل وكالة المخابرات المركزية (التي وضعته قيد المراقبة اللصيقة) والكونغرس المكارثي (الذي أحاله إلى «لجنة النشاطات المعادية لأمريكا»). الكاتب والمؤرّخ الأمريكي البارز بول كنيدي يروي التالي: «في عام 1948، قرّرت وكالة المخابرات المركزية تدمير بول روبسون. لقد كان مستقبله الفني يعد بالكثير من التألّق والتأثير، ولكنهم عملوا جاهدين على تجميد الزمن، وتجميد بول روبسون في ما نعيشه نحن من أزمنة، تمهيداً لاستبعاده من الوجود وفق مفهوم جورج أورويل عن الكائن الموجود في حال التغييب وحدها».

عكس روبسون أكثر مما يمكن أن تحتمله المؤسسات من «تعددية» في ألوان الحلم الأمريكي، وكان شيوعياً، ربما أكثر بكثير مما ينبغي أو يمكن للأخلاق الليبرالية أن تحتمل؛ وكان قبل هذا وذاك عبقرية سوداء ولكنها في العقيدة… حمراء

لماذا كلّ هذا؟ لأنّ روبسون، ببساطة لا تخلو من بلاغة الرعب، عكس أكثر مما يمكن أن تحتمله تلك المؤسسات من «تعددية» في ألوان الحلم الأمريكي؛ ولأنه كان شيوعياً، ربما أكثر بكثير مما ينبغي، أو يمكن، للأخلاق الليبرالية أن تحتمل؛ وكان، قبل هذا وذاك، عبقرية سوداء، ولكنها، في العقيدة… حمراء! ولأنه صار الرجل/ الظاهرة الذي مثّل مزيجاً عبقرياً من الفنون والأخلاق والمواقف، حتى بات نموذجاً رفيعاً في كلّ حديث صادق، كما في كلّ تشدّق كاذب، عن معجزات «الحلم الأمريكي» دون سواه.

وذات يوم، وعلى سبيل المشاركة في إحياء الذكرى المئوية لولادة روبسون، اختارت الأسبوعية الأمريكية New Republic المعلّق لي سيغيل للقيام بمهمة استحضار الوجوه المتناقضة لشخصية المحتفى بميلاده؛ فلم يكن مفاجئاً أنّ بعض الاحتفاء سار على النحو التالي: «لقد كان رجلاً عاطفياً شجاعاً، ولكنه كان حماراً مغروراً جباناً. كان التزامه السياسي [بفكرة الشيوعية] تامّاً، لأنّ موهبته الفنية كانت ناقصة. لقد كان مصدر أذى للعنصرية الأمريكية البيضاء، ولكنه كان متواطئاً مع الشرّ». وذاك كان مجرّد غيض من فيض في مقالة طويلة امتدت على أربع صفحات، وبدا وكأنها قفزت إلى سنة 1998 من أرشيف الحرب الباردة في أربعينيات القرن.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي