

يصادف الثلاثاء المقبل الذكرى الـ 30 لاغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، وكان ذلك يوم الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، وقد تميز رابين بمسألتين، الأولى في حياته والثانية في مقتله ومماته، وكان آخر زعماء إسرائيل البراغماتيين العلمانيين الذين كان يمكن أن يدخل العرب والفلسطينيون معهم في سلام، أو قل في هدنة طويلة من اللاحرب وقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة والبقاء.
وقد التزم رابين بذلك المبدأ العملي فدفع حياته ثمناً لالتزامه، فالقاتل إيغال عمير يهودي يمني متعصب عمره 25 سنة، وكان يدرس القانون والشريعة اليهودية ومعارضاً شرساً لـ "اتفاق أوسلو" بين عرفات ورابين، وكان يعيش حال انكسار عاطفي واكتئاب بعدما رفضته صديقته الأوروبية الـ "أشكنازية" التي ارتبط معها بعلاقة حب أفلاطونية خمسة أشهر، تركته بعدها بسبب إصرار أهلها البيض على رفض عمير اليمني الـ "سفارديمي" ذي السحنة السمراء الأقرب للسواد، لتتزوج أحد أصدقائه البيض الذي دعاه إلى حضور حفل الزفاف.
كان إسحاق رابين اليهودي الوحيد الذي قتله يهودي آخر لأسباب سياسية، ومع 80 عاماً تقريباً من عمر إسرائيل التي أعلنت دولتها عام 1948 لم يقتل بها يهودي على يد يهودي آخر لأسباب سياسية إلا مرة واحدة، ولكن كم قتلنا من بعضنا على مدى تلك العقود الثمانية بذرائع ومبررات وتنظيرات سياسية مختلفة؟ وكم قتلنا في سوريا والعراق وليبيا والجزائر والسودان، وما أدراك ما السودان، حيث يقتل الآلاف اليوم في الفاشر وينزح ملايين في أكبر عملية نزوح شهدها التاريخ الحديث، وكم من فظائع يشيب لها الولدان تجري في الفاشر وقت كتابة هذه المقالة، وسط تجاهل دولي وإعلامي شبه تعتيمي؟
المؤكد أننا قتلنا من بعضنا أكثر مما قتلت إسرائيل منا، وهذه هي الحقيقة الدامية، فمن يسترخص دمه لا يتوقع أن يثمن الآخرون دمه، فقد قتلت إسرائيل أمس الأربعاء وأثناء وقف إطلاق النار 104 فلسطينيين بحجة أن حركة "حماس" تتلكأ في البحث عن جثامين أسراها الإسرائيليين، ويذكر أن ألوفاً مؤلفة من الفلسطينيين لا يزالون تحت الأنقاض في غزة، وقد تعجن الجرافات والتراكتورات جثامينهم مع الكونكريت المتراكم نتيجة القصف الوحشي الإسرائيلي على مدى عامين.
قُتل إسحاق رابين وتعاقب على رئاسة الحكومة الإسرائيلية بعده متطرفون متشددون، لعل أقلهم تشدداً شيمون بيريز، مرتكب "محرقة قانا" والفائز بـ "جائزة نوبل للسلام" مشاركة مع إسحاق رابين وياسر عرفات، ثم إيهود باراك قائد وحدة الـ "كوماندوز" التي اغتالت قادة "فتح" يوسف النجار وكمال ناصر وكمال عدوان عام 1973، ويتردد اسمه هذه الأيام بأنه المقصود بمذكرات فيرجينيا روبرتس جيفري التي صدرت قبل أسابيع وبعد أشهر من انتحارها، وقد كانت مراهقة ووقعت ضحية اغتصابات متكررة على يد رجال سلطة ومال ونفوذ، فقد تاجر بها جنسياً جيفري إبستين، عميل الـ "موساد" الذي انتحر داخل السجن في أميركا، وكان من بين من اغتصبوها دوق يورك الأمير البريطاني أندرو، ورئيس وزراء سادي كما جاء في مذكراتها، كان يعذبها أثناء اغتصابها ويخنقها حتى تشارف على الموت، وتقول تسريبات العارفين وتشات "جي بي تي" إن رئيس الوزراء المقصود هو إيهود باراك.
وتلا باراك أرييل شارون الذي ارتبط اسمه بـ "ثغرة الدفرسوار" واجتياح لبنان عام 1982 ومذابح صبرا وشاتيلا والانسحاب من غزة عام 2005، ثم تلاه إيهود أولمرت الذي دمر لبنان في حرب عام 2006، وتخللت فترات هؤلاء فترة لنتياهو عام 1996 ثم تربعه على عرش إسرائيل منذ عام 2009 وحتى اليوم.
اغتال عمير رابين ليقبع في السجن بقية حياته، وباغتيال رابين اغتيل حلم لم يتحقق، ويبدو أننا اليوم نشهد استئنافاً لحرب الإبادة في غزة، فإذا كانت إسرائيل قد قتلت قبل يومين أكثر من 100 فلسطيني وتدّعي أنها أوقفت الحرب بعد "مؤتمر شرم الشيخ"، فكم ستقتل لو استأنفت المذبحة رسمياً مرة أخرى؟ أما الحديث عن السلام وحل الدولتين الذي قال به إسحاق رابين فقد دفنه نتنياهو مع جثامين آلاف الضحايا من الأطفال والنساء والمدنيين الفلسطينيين في غزة، ومن يدري فقد يأتي سموتريتش أو بن غفير رئيساً للوزراء بعد أن يغادر نتنياهو بالموت أو السجن؟
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - الاندبندنت عربية