

جاء في سفر التكوين (17: 6) أن الله خاطب إبراهيم بقوله: «وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكاً أبدياً، وأكون إلههم». وورد في القرآن الكريم في سورة الأعراف قول موسى لقومه: «استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين». وفي سورة إبراهيم ورد: «وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم، ذلك لمن خاف مقامي، وخاف وعيد».
في النصوص التوراتية والقرآنية أعلاه وعد بأرض لجماعة معينة، غير أن شروح التوراة تختلف عن القرآن الكريم في أسباب منح الأرض لتلك الجماعة، وكذلك في الأسس التي تحدد ماهية الجماعة التي وُعدت بالأرض، وهل هي جماعة عرقية سلالية، كما في شروح التوراة، أم جماعة دينية رسالية، كما في القرآن الكريم؟
تتمحور شروح التلمود وأدبيات الحاخامات فيما يتعلق بالنص أعلاه من سفر التكوين، تتمحور حول «النسل الجيني» لإبراهيم الذي اختصر ـ لاحقاً ـ في «بني إسرائيل»، وبالتالي في اليهود، لأهداف معروفة، ما أسهم في التحول من اليهودية/الدين إلى اليهودية/الجين، بالمعنى العرقي، وهو المعنى الذي حددته الشروح والأدبيات اليهودية التي نظرت إلى الإله نظرتها إلى «رب جيني»، أو «إله قومي»، في هيئة تاجر عقار، يعطي صكاً لعرقية معينة بملكيتها الأبدية لأرض محددة، على أساس جينات هذه العرقية.
وفي المقابل يختلف القرآن الكريم اختلافاً جذرياً عن شروح نصوص سفر التكوين وغيرها، فيما يتعلق بالنظر إلى ماهية «نسل إبراهيم»، حيث ينحو القرآن الكريم منحى رسالياً، لا سلالياً، في تحديده لنسل إبراهيم، وكذا تحديد مبررات مِلكية الأرض التي هي ـ أساساً ـ لله الذي يورثها «عباده المتقين»، حيث لا يعكس مفهوم «التقوى» أية روابط سلالية، بل يؤكد علائق رسالية تربط عناصر تلك الجماعة التي ترث الأرض، وهم «أتباع الرسالات»، لا «ذراري السلالات».
كما نجد الأبعاد الرسالية في تحديد «نسل إبراهيم» في سورة الحج: «ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين»، وهنا يشار لإبراهيم كـ»أب ديني، لا جيني»، لأولئك «المسلمين» الذين يستحقون وراثة الأرض على أساس رسالي، لا سلالي، وهو منحى يعد ثورة على التقاليد السامية القبلية في تحديد الانتماءات، حيث تكون الأرض لأولئك الذين سلموا أو فوضوا الأمر لله. وبهذا المفهوم لكلمة «المسلمين» يرد في القرآن أن إبراهيم كان «حنيفاً مسلما»، وأن « بني إسرائيل»، أو أولاد يعقوب قالوا لأبيهم الذي سألهم «ما تعبدون من بعدي»؟: «قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون»، كما ورد في سورة البقرة، وهي وصية إبراهيم وإسرائيل لأبنائهم: «يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون»، حسب سورة البقرة.
|
نظرت الأدبيات اليهودية إلى الإله نظرتها إلى «رب جيني»، أو «إله قومي»، في هيئة تاجر عقار، يعطي صكاً لعرقية معينة بملكيتها الأبدية لأرض محددة، على أساس جينات هذه العرقية |
ووفقاً لهذا المنحى الذي ينحوه القرآن الكريم تُفهم آية سورة المائدة التي أوردت قول موسى لقومه: «يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم»، حيث لا يمكن ـ وفقاً للقرآن الكريم ـ تفسير قوم موسى على أساس سلالي، ذلك أن المفهوم القرآني يدور حول «الأتباع الرساليين»، لا «الذرية السلالية»، كما هو واضح في نصوص قرآنية كثيرة، لا تخص موسى أو إبراهيم وحدهما، بل إن القرآن نفى عن نبي الإسلام ذاته «الأبوة الجينية السلالية»، وأثبت له «الأبوة الدينية الرسالية»، كما في الآية الكريمة من سورة الأحزاب: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين».
وفي مقابل هذا المنحى الإسلامي الذي يتجاوز السلالة إلى الرسالة، ويتعدى الأسرة إلى الفكرة، تتمحور الشروح اليهودية حول التأويلات السلالية للأديان، وتجعل إبراهيم «أباً جينياً»، والرب «إلهاً قومياً»، والوعد الإلهي بالأرض «وعداً سلالياً» لليهود، في تصور غير متماسك، إذ أن إبراهيم نبي رسالي، فيما اليهود عرقية سلالية، ومن غير المعقول أن يأتي «الدين الرسالي» لتقديس «الجين السلالي».
ومع ذلك استمر التفسير التلمودي للتوراة والأسفار على أسس سلالية، حتى انتهى الأمر إلى إطلاق اسم إحدى قبائل بني إسرائيل على الديانة التي جاء بها موسى، والتي يسميها القرآن «الإسلام»، بعد أن أجريت عليها جملة من التحويرات الكبرى، لتتواءم مع التفسير السلالي للدين، فأصبح دين موسى الذي يُعد ـ حسب المنظور الإسلامي ـ «ملة إبراهيم»، والذي هو في كذلك دين المسيح ورسالة محمد، أصبح هذا الدين «يهودية»، وهي تسمية سلالية لا رسالية، وجينية لا دينية، في تحريف كبير للمقاصد الرسالية للدين الذي جاء في القرآن عن صاحبه موسى أنه قال لقومه: «يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين»، إذ يسمي القرآن الكريم قوم موسى مسلمين، لا يهودا، لأن لفظ «مسلمين» يحيل على رسالة ذات محتوى ديني، بينما يحيل لفظ «يهود» إلى سلالة، ذات محتوى قومي.
وهنا، يبدو الفرق كبيراً بين تأويلين: أحدهما رسالي يتعاطى مع الدين كرسالة لا تخص عرقاً دون غيره، كما هو واضح في الإسلام، والآخر سلالي، يتعاطى مع الدين كسلالة منحصرة على عرق، أو كفكرة تجسدت في أسرة، وهو ما يجعلنا إزاء «دين قومي» تعاظمت فيه التوجهات العرقية، حتى أصبحت السلالة هي الرسالة، كما تؤكد الأدبيات اليهودية المختلفة.
*كاتب يمني - القدس العربي
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس