سنة تمضي، والحراك ما يزال هنا
2020-02-26
واسيني الأعرج
واسيني الأعرج

سنة مضت مليئة بالأحداث الحاسمة كان وراءها الحراك الوطني بعد سنوات من التكميم. عاد من جديد بقوة وبآمال لا تقل عن تلك التي انطلق بها، وبشعارات دقيقة صنعتها التجربة الحية بكل ديناميكيتها، خارج الشتيمة والعنف اللفظي الذي اخترق الحراك قبل شهور مضت. صحيح أن الأعداد البشرية قلت نسبياً على ما كانت عليه في البداية، إذ تجاوزت في شهر مارس الماضي العشرين مليون عبر الوطن، لكن الأمر طبيعي؛ لأن الكثير من الأشياء تحققت، منها سقوط العهدة الخامسة، وإقالة الرئيس، وحبس بعض رؤوس العصابة، وتنشيط القضاء الذي امتلك بعض الحرية على عكس ما كان عليه، إذ كان التليفون هو المحدد لمصائر البشر.

اكتشف الجزائريون فجأة أن من كان يتحكم في مصير البلاد هي مافيا لا ضمير لها إلا سلطان المال، فبعثرت كل مقدرات البلاد. بعد سنة من السير أسبوعياً في الشوارع، لا يمكن لأي حركة مهما كانت قوتها أن تبقى في عنفوان البداية، فاستمرار الحراك وحده يدل على الإصرار على الذهاب بالتغيير إلى أقصاه، على عكس ما راهن عليه النظام، أي دخول التشققات والتصدعات في عمق الحراك، قبل تحلله ونهايته وهو ما لم يحدث.

لم يمسس الحراك أي تعفن، وقد أظهرت الجمعة الماضية، التي ختمت السنة الأولى للحراك، نفساً جديداً في الحراك الشعبي، وتجذراً في المطالب الجماهيرية الكبيرة. فبعد أن أسقط الحراك سلطة العصابة، بتضامن مع المؤسسة العسكرية التي لم تتدخل في الشارع ولم تطلق رصاصة واحدة، في وقت نرى فيه العشرات من المتظاهرين يموتون تحت نيران القنص الإجرامي في العراق، حتى في الثورات التي حققت شعوبها بعض المكاسب مثل الحالة السودانية، أصبح اليوم من واجب هذه المؤسسة أن ترافق الحراك في مطالبه الديمقراطية الأكثر إلحاحاً، كفصل السلطات، والحفاظ على الجيش بإخراجه من الدائرة السياسية، والعمل على تعميق ركائز الجمهورية الثانية.

لا شيء يعوق تحقيق ذلك إلا بعض الإرادة السياسية فقط. أي تأخر في إنجاز هذا المشروع الحيوي لجزائر المستقبل هو في المحصلة فرصة للعصابة لتستعيد أنفاسها وتسترجع قوتها للانقضاض على ما تبقى واقفاً من البلاد. يمكن للنظام والرئاسة والحراك أن يحتفلوا بمرور سنة على بدايته سلمياً، وأن يبعثا برسائله التي تحدث عنها دائماً السيد الرئيس: ضرورة إطلاق سجناء الرأي. إهانة حقيقية للثقافة السياسية ولتاريخ الجزائر أن يسجن مثقفون من أهم أبناء هذه الأمة.

النظام، للأسف، لم يف بوعد إطلاق سراح المعتقلين، ولا بفتح حوار حقيقي. لن تكون لصمته أي فائدة إذا لم يفتح النظام مفاوضات حقيقية مع المجتمع المدني والحراك على رأسه، تطرح فيها كل القضايا، مع آجال تحقيقها، الأمد القريب والمتوسط والبعيد. تحتاج الجزائر اليوم إلى إعادة هيكلة للمجتمع وفق المتطلبات الجديدة لبناء مجتمع جديد، مجتمع الديمقراطية والحق والحياة والسلام.

الجزائريون في حاجة ماسة إلى أن يستمع بعضهم إلى بعض بدقة قبل فوات الأوان. الجزائر مهددة بمخاطر قاتلة. إن فكرة تغيير الدستور التي أعلن عنها السيد الرئيس ضرورية من حيث المبدأ، لكن يجب الاتفاق أولاً عن أي دستور نتحدث، عن وثيقة قانونية صارمة تتحدد فيها الخيارات المستقبلية وتفصل فيها الوظائف عن الحكومة وعن الرئاسة، بحيث يصبح أي مسؤول أخطأ مصدر مساءلة، ولا يعفي أي شخص مهما كانت رتبته الاجتماعية من المساءلة القانونية ومهما كانت الحصانات الممكنة. فأية حصانة لا تعفي الإنسان من مسؤوليته التاريخية كما في كل البلدان الحديثة. صحيح أن الوحدة الوطنية خط أحمر لا يمكن تخطيه أبداً مهما كانت المبررات والخيارات الفيديرالية وغيرها، ولكن لا يمكن تفادي ذلك إلا بدولة حديثة وبجمهورية جديدة. يجب أن يبنى كل شيء على قواعد دقيقة تتجاوز المزالق الخطيرة التي قد تودي بالبلاد إلى حالة تفكك خطيرة لا يريدها أي جزائري لوطنه.

المساواة الحقيقية بين المرأة والرجل، ليس كشعار ولكن كحقيقة، واحدة من لبنات الدولة الحديثة التي يريد الحراك تشييدها، وإصغاء الحكومة أكثر من ضرورة. فقد حققت المرأة مكاسب كثيرة لاسترجاع حقها الدستوري، ولعل تحديد الوضع الاعتباري للدين أمر شديد الأهمية وضرورة إخراجه نهائياً من دائرة الصراع السياسي، ومنع استغلاله لمصالح إيديولوجية. هذه الركائز أساسية، وما عداها تفاصيل عامة تأتي بسهولة.

إعادة إنتاج الدساتير القديمة لا تقدم الشيء الكثير للبلاد، إذ تحولت إلى وثيقة لا قيمة لها، لا يحترمها حتى واضعها. ليست دساتير ولكن وسائط تبريرية لاستمرار النظام. هل يستطيع نظام ما بعد الانتخابات الأخيرة أن يتجاوز نفسه ويتحول إلى مرحلة انتقالية لجزائر أخرى؟ تشكل لبنة أو عتبة أولى للعبور نحو الجمهورية الثانية التي تعني بالضرورة بنية أخرى أكثر حداثة يجد فيها الإنسان الجزائري فرصته للتقدم والتطور؟ الكثير من هذه القضايا يمكن تحقيقها في عهدة تكون بمثابة عهدة وضع اللبنات الأولى والأساسية في الجمهورية المقبلة، وإلا لن تكون الانتفاضة إلا تجربة مرة تنضاف إلى التجارب التاريخية الفاشلة في تغيير نظام تصلب حتى أصبح صخرة لا يمكن زحزحتها. وأي تأخر في تحقيق المطالب الأساسية للحراك قد يقود البلاد إلى مخاطر جمة.

الجزائر اليوم على الحواف الخطيرة، والوضع الدولي ينذر بكل المزالق التي قد تهز يقينيات الدولة الوطنية الضامنة للاستمرار. يكفي أن نعرف أن الجيش الأمريكي في مالي، على الحدود الجزائرية الجنوبية، حيث الإنزال الغربي الاستعماري الجديد يتجاوز الحرب ضد الإرهاب.

الحرب ضد الارهاب الحقيقية تتطلب تجفيف منابعه من حيث المال والتدريبات العسكرية. من يموله اليوم ومن يدربه؟ من يسلحه؟ هذا الوضع الصعب يحتم على أكبر دولة عربية وإفريقية أن تدرس

تحالفاتها الجهوية والدولية، فليست وحدها على الخرائط وتملك القدرة على الحفاظ على وحدتها ومقدراتها المالية. من هنا تحتاج الجزائر إلى التفكير في هذه الخيارات لضمان الاستقرار وإبعاد شبح الحروب التي دمرت الكيانات العربية التي يعاد الآن تركيبها وفق المصالح الاستعمارية الجديدة. لتكن هذه العهدة الرئاسية عهدة انتقالية بالاتفاق مع كل القوى الفاعلة بما فيها الحراك، تترسخ فيها قواعد التحول نحو الديمقراطية ونحو الجمهورية الثانية.

 



مقالات أخرى للكاتب

  • المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
  • كيف خرجوا من معطف الرئيس؟
  • عزلة حتى التَّلاشي.. وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي