لماذا بات متعذراً حلم اليمين الإسرائيلي بطرد الفلسطينيين إلى الدول المجاورة؟
2023-05-06
كتابات عبرية
كتابات عبرية

“في نهاية كل جملة تقولونها بالعبرية يجلس عربي مع نرجيلة”، قال مئير أريئيل. بهذه الروحية يمكن القول بأن النكبة ما زالت رابضة في هامش كل حوار حول الصراع الوطني المؤلم لنا. 75 سنة مرت والفلسطينيون لم ينسوا بعد. 75 سنة والإسرائيليون لا يريدون التذكر. ماذا بعد، جميعنا على قناعة، بدون أي شك، بأن ذلك كان ذنب العرب. لأنهم هم الذين شنوا الحرب التي جلبت عليهم كارثتهم.

إذا كان حتى تسعينيات القرن الماضي من السائد نفي طبيعة النكبة، والادعاء أن اللاجئين لم يطردوا، وأن دعاية العرب هي التي دفعتهم إلى الهرب، فقد تغيرت هذه المقاربة منذ أن نشرت أبحاث بني موريس وايلان بابيه وآخرين. كثيرون عرفوا عن أعمال الطرد وحتى إنهم عرفوا عن التوق غير الخفي للتهجير الذي وقف خلفها. مع ذلك، ثمة أمر واحد بقي قائماً أيضاً في أوساط ليبرالية الواعية والمتفهمة. صحيح أن ظلماً قد حدث، لكن رفض العرب الموافقة على قرار الأمم المتحدة 181 من 29 تشرين الثاني 1947، الذي اقترح تقسيم البلاد، وشنهم هجوماً واسعاً على الاستيطان العبري الفتي، هو ما أدى إلى هذه المأساة.

سأعترف بالحقيقة، حتى أنا كنت أميل لفترة طويلة للموافقة على مبادئ هذه المقاربة التاريخية. كما هو معروف؛ فإنه في حين أن اليمين التنقيحي رفض التقسيم، فإن اليسار كله قد تبناه، وحتى اليسار اليهودي غير الصهيوني. حتى إن ستالين أيد في تلك الفترة إقامة دولة يهودية، وأمر جميع توابع الاتحاد السوفييتي وأتباعه المحليين بتأييد التقسيم. عرفت بأنه بعد عقد ونصف من ذلك، عند انضمام دول مستعمرة سابقاً للأمم المتحدة، أنه من شبه المؤكد أن القرار المصيري لم يكن مقبولاً، لذلك اعتقدت أن تسلسل الأحداث على هذا النحو كان جيداً، أقيمت دولة إسرائيل “بمعجزة” في اللحظة الأخيرة.

مثل كثيرين، لم أتعمق في مبادئ قرار التقسيم. عرفت في مرحلة متقدمة أن القرار منح منطقة أكبر لليهود (62 في المئة) من ناحية جغرافية، وعرفت أيضاً أن جزءاً كبيراً منها كان صحراء. في 1947 كان في فلسطين الانتدابية مليون وربع عربي و600 ألف يهودي، أي 67 في المئة من السكان الأصليين المحليين و33 في المئة من المستوطنين، الذين في معظمهم كانوا مهاجرين. قرار التقسيم أخذ في الحسبان بأن المهجرين اليهود الآخرين سيأتون في السنوات التالية من معسكرات ألمانيا. معظم الدول التي أيدت التقسيم لم ترغب بهم على أراضيها، وكان من المريح لها أن تؤيد إقامة دولة يهودية على بوابة العالم العربي.

لكن ماذا كانت أسس التقسيم الديمغرافية لهذا القرار؟ على أراضي الدولة العربية العتيدة كان يجب أن تشمل 725 ألف عربي و10 آلاف يهودي. وعلى أراضي الدولة اليهودية 598 ألف يهودي. وحسب جميع الآراء، هذا عدد منطقي جداً. مفاجأتي الكبيرة كانت عندما اكتشفت بأنه كان يجب أن ينتمي للدولة اليهودية أيضاً 497 ألف عربي، أي أن الدولة اليهودية المخطط لها لن تخصص وبحق لتكون “يهودية”، بل ستكون “ثنائية القومية”.

نحو نصف مليون عربي كانوا عالقين في المشروع، الذي لم يكن مشروعهم من ناحية قومية، حتى لو أنه في أفضل الحالات كان يحق لهم أن يصبحوا فيه مواطنين إسرائيليين. لذلك، ليس غريباً أن جميع المؤسسات والحركات العربية في فلسطين والعالم العربي، باستثناء الشيوعيين العرب أتباع ستالين، عارضوا على الفور التقسيم الذي اعتبره غير منطقي، وبدأوا في أعمال عدائية ضد الدولة اليهودية المستقبلية. يمكن الافتراض أن مبادئ التقسيم لو كانت معكوسة وتميل لصالح الجانب العربي، فإن كل أجزاء الحركة الصهيونية، وليس فقط اليمين التنقيحي، رفضوها تماماً.

لم تتحقق الدولة “ثنائية القومية” من العام 1947، والحرب والنكبة منعتا تحققها. وعلى الرغم من أن معظم السكان المحليين من الفلاحين العرب لم يشاركوا في المعارك فعلياً، فإن نحو 750 ألفاً منهم تم تهجيرهم واضطروا إلى ترك أراضيهم داخل أراضي إسرائيل التي توسعت حدودها، و150 ألفاً منهم فقط بقوا في أراضيها. في 1967 بدأت إسرائيل التي توسعت أكثر مرة أخرى، في خلق واقع ثنائي القومية. الـ 150 ألف عربي الذين بقوا فيها في 1948 أصبحوا الآن مليونين، 21 في المئة من مواطني إسرائيل. يعيش تحت حكم إسرائيل العسكري في الضفة الغربية وشرقي القدس نحو 3.25 مليون فلسطيني، وفي القطاع 2.25 مليون عربي. بالإجمال، 7.5 مليون فلسطيني. هذا رقم يساوي عدد الإسرائيليين غير العرب الذين يعيشون بين النهر والبحر، وغير بعيد اليوم الذي سيعيش فيه مليون منهم خلف الخط الأخضر. ورغم عدم المساواة المدنية والقانونية والسياسية والصراع الدموي الذي ينبع من ذلك، إلا أن المجموعتين السكانيتين تندمجان معاً أكثر فأكثر.  

كثير من الإسرائيليين يحلمون سراً بنكبة ثانية، ويدركون أن الوضع الحالي لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة. اليمين الواهم الشريك في الحكم الحالي، يدفع قدماً ليس فقط بزخم المستوطنات، بل أيضاً بانفجار كبير يؤدي إلى طرد السكان العرب إلى ما وراء نهر الأردن. ولكن مصالح الغرب في الشرق الأوسط تحبط هذه النظرة. طرد 2 – 3 ملايين فلسطيني إلى الأردن أو السعودية أو مصر سيؤدي كما يبدو إلى انهيار الأنظمة في هذه الدول.

في موازاة هذا الوضع غير المحتمل الذي ينطوي على الدمار، فإنه على هامش المعارضة الكبيرة للانقلاب النظامي الذي يدفعه اليمين قدماً، بدأت مرة أخرى تظهر أفكار حول الكانتونات والفيدرالية أو الكونفيدرالية. الوعي المتزايد لعدم إمكانية تقسيم البلاد أدى إلى طرح أفكار لتقسيم السيادة فيها. هذه ليست أفكاراً أصيلة. فمنذ أحاد هعام وآرثر روبر ومارتن بوبر وحنه ارنديت ويهودا ماغنس وحتى ميرون بنفنستي وأ. ب يهوشع أبراهام بورغ، تم طرح اقتراحات مفصلة أكثر بقدر ما عن أشكال الحكم المشترك، إلى جانب الاعتراف بهويتين منفصلتين لمجموعتين تدمجان معاً جزء من الأجهزة من أجل اختيار الممثلية السياسية لها وتحول أسس الدولة إلى ثنائية القومية.

خيار كهذا لتقسيم السيادة لا يعتبر مثالياً، والأفضل منه سيادة وطنية موحدة. وتجدر الإضافة بأن أنظمة ثنائية القومية أو متعددة القوميات في شرق أوروبا انهارت في الصراعات القاسية، لكنها في أماكن أخرى مثل كندا وبلجيكا وسويسرا وإسبانيا وبريطانيا وإيرلندا، التي جرى في جزء منها مواجهات شديدة وعنيفة، فقد توصلت الأطراف إلى تفاهمات أدت إلى حياة مشتركة. عدم وجود خيار آخر، وليس الحب الزائد، هو الذي أدى بالباسك إلى العيش مع الكاستليانيين في إسبانيا، ودفع الكاثوليك للعيش مع البروتستانت في إيرلندا. ورغم التوتر بين بريطانيا واسكتلندا في بريطانيا، أو بين الفلاميين والفالونيين في بلجيكا، إلا أن هذه الدول الليبرالية ما زالت دولاً فيدرالية مع مواطنة متساوية وسيادة مقسمة.

هل سنتمكن من رؤية اليوم الذي ستقام فيه كونفدرالية بين إسرائيل والفلسطينيين؟ العقبات كبيرة وشديدة، واحتمالية ذلك ضعيفة. ومع التشابه الكبير بين الدين والقومية الراديكالية، سواء في أوساط الإسرائيليين أو في أوساط الفلسطينيين، فإنه يصعب الآن تخيل عملية مصالحة وقبول للآخر. لكن إزاء الشعبين المرتبطين ببعضهما مثل توأم سيامي، فإن أي بديل آخر لوضع ثنائي القومية يبدو خيالياً جداً.

هذا يذكرني بتجربة شخصية صغيرة: في المرة الأولى التي اجتزت فيها الحدود بين فرنسا وسويسرا في طريقي إلى جنيف بالقطار، جلست إلى جانبي فتاة من سويسرا تتحدث الفرنسية. وعندما اقترب القطار من جنيف سألتها عن المحطة التي عليّ أن أنزل فيها لشرقي المدينة. ذكرت لي اسم المحطة. وسألت بسبب لهجتي: من أين أنت؟ قلت لها: من إسرائيل. بعد دقائق ابتسمت وقالت بسخرية: احذر، إن أضعت المحطة وواصلت فستسقط مباشرة في يد الألمان.

 

شلومو زند

هآرتس 5/5/2023



مقالات أخرى للكاتب

  • إسرائيل بعد ضربتها لأصفهان.. هز مقصود للسفينة الإقليمية أم لعب بالنار؟  
  • كيف واجه أهالي دوما والمغيّر إرهاب المستوطنين؟  
  • هل هناك خط دبلوماسي إيراني - عربي- أمريكي لمنع حرب إقليمية؟  





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي