هل يكون ريتشى سوناك أوباما آخر؟!
2022-11-09
عبد المنعم سعيد
عبد المنعم سعيد

لابد أن شهقة كبيرة قد ألَمّت بالليبراليين والديمقراطيين في العالم عندما جرى رسميًّا تعيين «ريتشى سوناك» رئيسًا لحزب المحافظين البريطانى، ومن ثَمَّ رئاسة وزراء بريطانيا. لم يكن قد مضى وقت طويل على حالة الأسف على الليبرالية والديمقراطية، التي أدت إلى اختيار رئيسة وزراء فاشلة- ليز تراس- بعد تنبؤ متعجل بأنها سوف تكون خليفة «مارجريت تاتشر» في إصلاح الاقتصاد البريطانى. ورغم أن اختيار السيدة جاء دليلًا على قدرة النظام السياسى البريطانى في التكيف مع أوضاع صعبة؛ فإن فشلها السريع وضع موضع الشك مدى الحكمة الكامنة في آلية اختيارها للإقامة في المكان الذي أقام فيه تشرشل. اختيار «ريتشى» بدا أنه بمثابة رد اعتبار للحالة البريطانية كلها، فقد جاء الرجل من أصول هندية عريقة بالغنى والأصول؛ ولكن ذلك مهما كان فإنه يدل على أن المساواة قائمة بين المواطنين مهما كان اللون والديانة والعقيدة إلى آخر القائمة المعروفة على جلال النظام الديمقراطى. أتى الرجل إلى سدة الحكم بعد فترة قصيرة للغاية من حالة استعراض بريطانية أصيلة جاءت مع وفاة الملكة إليزابيث الثانية، التي عاش فيها البريطانيون والعالم في قصة التاج البريطانى بقدر غير قليل من الاعتزاز والفخر. خارج بريطانيا كان الاعتزاز أكبر بأنه حيث توجد الديمقراطيات العريقة فإنها تبرهن دائمًا على صلابتها في اختيار الأكثر كفاءة وقدرة مهما كان مختلفًا ومغايرًا للقاعدة التاريخية العامة، التي جعلت رؤساء وزراء بريطانيا جميعهم من أصول بيضاء رجالًا كانوا أو نساء. لم تكن هناك مراجعة للحالة الأوروبية كلها، التي جعلت بريطانيا تخرج من الاتحاد الأوروبى للتخلص من واجبات الهجرات العالمية المتتابعة، ولا بمَن أتى للقيادة نتيجة الانتخابات في إيطاليا وبولندا والمجر، والكمون داخل المعارضة كما جرى في ألمانيا وفرنسا.

لم يَخْلُ الأمر من مقارنات مع الحالة الأمريكية عند انتخاب باراك أوباما الذي جاء من أصول إفريقية مختلطة، ولكن النظام أتاح له الدراسة هو وزوجته في أرقى الجامعات الأمريكية (كولومبيا وهارفارد لأوباما، وبرنستون وهارفارد لميشيل). لم يكن أوباما فقيرًا عندما أتى إلى البيت الأبيض، فقد كان عضوًا في مجلس الشيوخ، ومدرسًا في جامعات؛ وكان له كتاب ضمن له من الدخل مع عدد آخر من الكتب ما يكفل الستر دائمًا. القصتان الأمريكية والبريطانية سرعان ما باتتا دليلًا على الحيوية الكامنة في النظام الديمقراطى الليبرالى؛ ولكن ما غاب عنهما سويًّا كان النتيجة الطبيعية للتعجل في الحكم، والتلافى المقصود أو غير المقصود لقراءة الواقع الذي نتج عن الحالة الأمريكية. ما حدث فعليًّا في الولايات المتحدة أن انتخاب أوباما حقق انقسامًا هائلًا داخل المجتمع الأمريكى لم يحدث منذ الحرب الأهلية الأمريكية. وأثناء وجوده في البيت الأبيض، ومع انتخابات التجديد النصفى، فقد رئيس الدولة الأمريكية القدرة على الحكم من خلال الطريق الطبيعى للكونجرس، فما كان منه إلا الحكم عن طريق قرارات رئاسية تنفيذية لها قوة القانون، وتحتاج ثلثى أعضاء الكونجرس لإزالتها، وهو ما كان مستحيلًا إزاء التوازن القائم وقتها. ولكنها كانت كافية لكى ينتخب «ترامب» أولًا، ولكى يزيل بعد ذلك الكثير من علامات أوباما الليبرالية ثانيًا، ويضع ثالثًا زيتًا على نار الانقسام الأمريكى. ولأول مرة في التاريخ الأمريكى المعاصر، قَلَّ كثيرًا الحديث عن أمريكا باعتبارها بوتقة الانصهار للأجناس، وبات الحديث عن التنوع مجالًا لكى يكون الإشهار للنوايا الانفصالية لدى ولايات مثل كاليفورنيا، التي أصبحت الآن في المكانة الرابعة، قبل ألمانيا، في هرم الناتج المحلى الإجمالى في العالم، ولا يسبقها إلا الولايات المتحدة والصين واليابان.

ولكن المشكلة لم تعد كاليفورنيا أو تكساس كنموذجين لولايات تشغلها أغلبية زرقاء، أي ديمقراطية، أو حمراء جمهورية، وإنما باتت متقاطعة داخل الولايات المختلفة، والتى تظهر في الاطراد الكبير في رفع أعلام «الكونفيدرالية» والتنويه بأبطالها خلال الحرب الأهلية. وعلى الرغم من أن الحرب الأهلية كانت معركة بين منطقتين من البلاد، فإن التعاطف مع الكونفيدرالية لم يعد يقتصر على الولايات التي انفصلت في الجنوب والولايات التي بقيت على الاتحاد في الشمال. الآن يوجد دعم للرموز والآثار الكونفيدرالية في جميع أنحاء أمريكا، باتباع خطوط العِرق والدين والتعليم بدلًا من الجغرافيا. هذه إحدى الطرق العديدة التي لم يعد فيها الجنوب مجرد منطقة، فقد أصبحت نسخة معينة منه هوية مشتركة بين الأمريكيين البِيض والريفيين والمحافظين من الساحل إلى الساحل.

كتب ديفيد جراهام في «أتلانتيك»، بتاريخ ٤ أكتوبر المنصرم، تحت عنوان «الولايات المتحدة الكونفيدرالية» أن أحد «منتجات هذا التحول إلى الجنوب هو أنه يمكنك الآن العثور على أعلام المتمردين معلقة في ولايات مثل ميتشيجان (التى فقدت 13000 من الأبناء في خدمة قضية الاتحاد) وأوهايو (31000) وويسكونسن (11000) وبنسلفانيا (27000)». منذ وقت ليس ببعيد، كان هناك ديمقراطيون في كل من المناطق الريفية والحضرية وفى كل منطقة من البلاد. كان الشىء نفسه ينطبق على الجمهوريين. لكن الديمقراطيين انقرضوا الآن إلى حد كبير كقوة سياسية في المناطق الريفية في جميع أنحاء البلاد، وعدد قليل ومتباعد في مكاتب على مستوى الولاية في جميع أنحاء الجنوب. السؤال المشروع هو عما إذا كان انتخاب أوباما سببًا في هذا الانقسام أم لا؛ والحقيقة هي أنه لا يوجد سبب واحد للتعامل مع ظاهرة معقدة، ولكن النتائج كلها تشير إلى أن انتخابه كان عبورًا لجسر كبير من التوافق الأمريكى، الذي تطور منذ الحرب الأهلية الأمريكية حتى الآن، والذى أعطى للسود كثيرًا من الحقوق، ولكنه كان مانعًا ليس فقط انتقال السلطة إلى الأمريكيين الأفارقة، وإنما أكثر من ذلك التخوف الشديد من أن يكون ذلك مدعاة لأن تصبح الولايات المتحدة دولة أخرى غير تلك التي اختارها المؤسِّسون للدولة.

الفكرة الليبرالية الديمقراطية نبيلة في مكوناتها النظرية، ولكن واقعها المختلط مع الدين والأصول التاريخية والمصالح المتنوعة تقدُّم لنتائج صعبة فيها الكثير من أصول الفتنة والتمرد. الظواهر البريطانية السابقة على انتخاب «ريتشى سوناك» حينما كان «البريكسيت» انشقاقًا ليس فقط على الاتحاد الأوروبى، وإنما أكثر من ذلك على الإفراط وما بدا تطرفًا أوروبيًّا لاستيعاب أجناس وهجرات جديدة. تجربة أوباما في الولايات المتحدة كانت منذرة بأكثر مما هي مبشرة بأن قضية الهوية والتجمعات العرقية ربما تكون أكثر أصالة من أفكار نبيلة.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس – المصري اليوم-



مقالات أخرى للكاتب

  • عودة أمريكا؟!
  • النكبة …!
  • فلسطين والتسوية السلمية؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي