السودان بلاد الاختلاف
2021-10-01
أحمد الفيتوري
أحمد الفيتوري

تم الاحتفاء بي في أم درمان بالسودان بأن دُعيت إلى عشاء من قبل عائلة مميزة وكبيرة، عرفت فيما بعد أنها مشهورة أيضاً كعائلة مثقفة ومعارِضة سياسياً. وأفصحت هذه العائلة بذلك بعدما شدها إليَّ، اهتمامي بالحياة الاجتماعية والثقافية، وتنقلي في ربوع مدينة الخرطوم، ثم على الوجه الآخر للنيل، أم درمان. ولما وصلت البيت الكبير "الدرماني"، أدهشني استقبال أهله شاباً في مقتبل العمر، وصحافياً في أول الطريق، إذ وقف جمع منهم، شيب وشباب، في صف من أول الشارع القصير حتى البيت، سلّم عليَّ الجميع بالطريقة السودانية، التي هي نوع من التأبط.

لما دخلت حجرة الضيافة الواسعة، لفتني أن ثمة جماعة منهم، جالسة في السقيفة، وأخرى في صحن الدار، وكأن بينهما فاصلاً، ثم تبيّن لي أنهم إخوة كثر، مع إخوة أبناء عم، وبعض من نسائهم. وأن الفصل في الجلوس، هو كما الفصل الأيديولوجي، فمَن جلس معي في صحن الدار، يمكن باختزال مخل، القول إنهم اليسار بتنوعاته، فيما آل السقيفة اليمين أيضاً بتنوعاته الإسلامية، وسألاحظ أن على الطاولة، حيث أتوسط، خمراً، فيما طاولة السقيفة خالية منه.

لما تم الطعام، سخن النقاش واحتد، وغصتُ في يمه، وكأنني من آل البيت، ومع علو موجه، تبيّنت لي ألوان جمة من الأفكار، وأن ما يجمع الجمع الاختلاف، الذي يبدو أنه اللُّحمة التي دمغتني، وأزالت غربتي وتوجساتي المعتادة، لطرح أفكاري في غير ذا المكان. وفي رحلتي تلك إلى السودان في بداية عام 1978، كنت وزميل ليبي هو المرحوم "علي النماوي"، نشارك في دورة، أقامتها وأشرفت عليها الجامعة العربية، لأسابيع عدة وفي مدن مختلفة.

وتلك الدورة عن الثقافة في المجتمع الزراعي والسودان نموذجاً. وأثناء تجولنا في السودان، كنا نتلقى محاضرات في هذا الخصوص، ونلتقي بشراً في المجال، ولكن في الميدان، في المشاريع الزراعية، والصناعية القائمة على الزراعة. ثم نجول بين المزارعين والصناعيين، وكل مساء نذهب حيث شئنا فنلتقي بمَن نريد، الدرس كان مدهشاً، فحيث ذهبت بدا أن السودان، كما بيت أم درمان، بيت الاختلاف.

لما عُدت إلى بلدي، انتابني شعور أنني سوداني الهوى، وقد شعرت أن السودنة معدية. وجلبت معي كتباً كثيرة، كلها هدايا من كتّاب وبحّاث وفنانين التقيتهم، ومن لم ألتق به أهداني كتبه زميل له، قد يكون يختلف معه. أجريت حوارات عدة، حصلت على مواد كتابية خاصة بي، حيث نشرت ملفاً يحتوي مختارات منها في جريدتي آنذاك، "الأسبوع الثقافي"، التي كان يرأس تحريرها الأستاذ عبد الرحمن شلقم. وكان الملف في مضمونه وحتى شكله، ما تمثل في رسومات خاصة، يحتوى على شيء من ذلك الاختلاف، الذي اسمه السودان.

ما دعا ما رويت إلى الذاكرة؟ الداعي هو أن السودان بلاد الاختلاف، وقد انهمرت باختلافاته، بل وخلافهم، عواجل الأخبار في المحطات التلفزيونية، التي ديدنها "العاجل"، أن يكون لدى كل منها عواجل خاصتها، فكانت هذا الأسبوع من نصيب السودان. وما إن يطل عاجل، حتى أكون عجولاً في تبينه، ومن سبل ذلك، أن أذهب إلى بيت العاجل، فأرصد الخبر عند أهله، حتى ولو كان مسكوتاً عنه، في محطات تلفزيون بلاده، إن تيسر تلفزيون. المهم على عجل، تابعت تلفزيونات سودانية وفاجأني من درّ حليب الذاكرة، أن لقيت في محطة حواراً مع الكاتب والفنان المحامي كمال الجزولي، الذي قابلته في رحلتي تلك إلى السودان، وكان ساعدي في عباب النيل والنيل الأزرق، والدرماني بخاصة، وقد أجريت حواراً معه، نشرته في الملف المشار إليه بالأسبوع الثقافي في جريدتي.

لقطة ثانية، من لقطات كثر، في شريط الذاكرة، أتتني بغتة، من لقاء الجزولي التلفزيوني، حيث تحدث فيه عن الفن السوداني. اللقطة هي أني كنت أتمشى عشية، بالشارع الرئيس في الخرطوم، فجذبتني شابة سودانية جميلة، انحرفت نحوها، مر أحدهم بها، منحها ورقة مالية فمنحته ورقة أو ورقاً أبيض. بثقة قلدت ما فعل المار، فبادلتني الثقة، ومنحتني ما تبيّن أنه ورقتان، في الفندق فُجعت، أن ما حملت كان قنبلة من دون دراية. فقد كان منشوراً سياسياً، ضد الرئيس آنذاك جعفر النميري، وحينها كان في البلاد إضراب أطباء، ما يدعمه بقوة المنشور، لكن خوفي بددته دهشتي من أن منشوراً سرياً يُباع، وفي شارع رئيس.

لمَن لم يتابع ما يحدث في السودان، في الأسبوع الأخير من سبتمبر (أيلول) 2021، أضعه معي في المشهد، فجأة وفي عاجل أن في السودان محاولة انقلابية عسكرية، علّق معلق متعجل أنها محاولة فاشلة، لأنها لعبة المكون العسكري، الشريك في حكم البلاد حالياً، فيما كان شرق البلاد يعيش فوضى، وصلت حتى إغلاق ميناء "بورتسودان"، وأن "المجلس الأعلى لقبائل البجا"، الذي يقود الاحتجاجات وحتى إغلاق الميناء، قدم مطالب منها: تسليم الدولة إلى مجلس عسكري مؤقت، حتى إجراء انتخابات، وذلك بعد استقالة الحكومة المدنية الحالية. وفي هذه الأثناء يتم الكشف عن جماعة تنتمي لـ"داعش" في الخرطوم. وخلال عملية ضد هؤلاء الإرهابيين، يسقط رجال أمن، بينما لم يحدث من قبل أن أعلن عن أي وجود لـ"داعش" في السودان.

عند مشاهداتي ما تتناقله التلفزيونات من السودان، في هذه اللحظة المحك، لاحظت وكأن السودان على الطاولة. في حين مثلاً تجد غموضاً والتباساً في ما يحدث في تونس، ولا تعرف على مَن يتكئ الرئيس التونسي، ولا ترى الأيدي التي يدير بها البلاد في هذه اللحظة الموازية لما يحدث في السودان.

 

*كاتب ليبي

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الأمة برس

الاندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • ما بعد الجائحة
  • أنت لمن؟
  • الخطر شرقاوي وليس إسلاميا





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي