لا أطيق الانتظار
2021-06-01
 بروين حبيب
بروين حبيب

منذ أكثر من عشرين سنة أصبحت متابعتي لمسلسلات شهر رمضان متابعة دقيقة وجادة، لنقل إنها متابعة بعين فاحصة وناقدة للتفاصيل الشاملة للجوانب الحكائية والتقنية، وأداء الممثلين، لمعرفة الموضوعات التي تطرح دراميا على الشاشات العربية، واكتشاف نجومها من مؤلفين ومخرجين، وحتى موسيقيين لتغذية جمهوري بثقافة مغايرة لتلك التي رسّخت صور نجوم الصف الأول التلفزيونية، مُهملة جهود جنود الخفاء في صناعة الدراما.

كانت تلك المتابعة جزءا من عملي، أو لنقل إنه «الهُومْ وُورْك» الذي أنجزه في البيت كتحضيرات أولية لمادتي التلفزيونية، ولا أخفي عليكم أنّ هذا الاهتمام جاء مكمِّلا لشغفي الشخصي بالنتاج الدرامي المصري، التلفزيوني والسينمائي، منذ بواكير عمري، فقد كانت الدراما من مكونات خلفيتي الثقافية، وكانت العين التي رأيت بها معالم الحياة، قبل أن أختبرها بنفسي في عمر النضج.

في خلال وجودي في القاهرة إبّان شهر رمضان، كانت الأجواء جدّ مشجعة لأتابع مسلسل «لعبة نيوتن» الذي أشادت به أقلام نقدية كثيرة، والحقيقة أن العمل أثار فضولي وجذبني منذ أول عشر دقائق منه.

وقد سألت نفسي ما خلفية تلك الجاذبية؟ هل هي فكرة المسلسل المبنية على معطيات الواقع الحالي، وصداماته مع نصوص الفقه، وكل التنظيرات المتعلّقة بحياتنا اليومية وفق مفاهيم جديدة غيرت من معنى الوطن والهوية

والانتماء وغيرها؟ أم أن ذلك مرتبط بواقع المرأة العربية، التي رغم تسلحها بالشهادة الجامعية والاختصاص والاستقلال المادي، بقيت رهينة العادات والسلطة الذكورية، التي تجعل الحياة صعبة ومعقدة، بعيدا عن «ظلّ الرجل» الذي لا يمكن تعويضه لا بـ»حيطة» ولا بحساب بنكي، ولا بوظيفة جيدة؟

انطرح السؤال في رأسي، وأنا أتابع أول مشهد لمنى زكي وهي تجر حقيبتها في المطار، وتهمس في حديث عبر سماعة غير مرئية لتبقي على إحساسها بالأمان في مرافقة افتراضية للزوج عبر صوته، رغم وصولها للأراضي الأمريكية، وبقائه في مصر.

يعيدنا اسم المسلسل إلى قوانين الجذب الفيزيائية، ويضعنا في مواجهة حقيقة نغفل عنها لأسباب كثيرة، في خضم صخب الحياة، أهمها أننا مجتمعات تحب السكينة وترفض تغيير هذا السكون. قاعدة نيوتن تقوم على عدة قواعد مرتبطة بالحركة والسكون وردات الفعل.

وهذا ما يحاول المخرج تامر محسن مع فريق ورشته الكتابية أن يفهمنا إياه، ففي البداية كانت فكرة السفر إلى أمريكا وإنجاب الطفل هناك للحصول على الجنسية الأمريكية مغرية وواعدة بتغييرات جيدة للزوجين، لكن كل حركة منهما وفق المعطيات الجديدة ولّدت ردة فعل غير متوقعة، بحيث تحكّمت في مسار الأحداث، الذي أصبح شبه مأساوي وأخذ الزوجين في دوامة غير متوقعة.

تختلف ردات فعلنا أمام المواقف التي حدثت في المسلسل، فوصف بعضها بالغبي، وبعضها الآخر بالجريء، وقليلا ما رأينا ردات فعل حكيمة، لكن في الغالب تفاعلنا بشدّة مع كل ردّة فعل من شخصيات، ورأينا مقدار أخطاء البشر في معالجة مشاكل بسيطة، بسبب ردات فعلهم المبالغ فيها، مثل إطلاق عبارات الطلاق جزافا عبر وسائل التواصل الحديثة، وهذا جزء مهم من السجال الذي أثاره هذا العمل، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بخصوص جوازه من عدمه، ومثل الهجرة إلى دول هي في الحقيقة فضاءات ثقافية مختلفة تماما عمّا ألفناه، والهجرة إليها يجب أن تكون مدروسة بطريقة عقلانية تحتكم للمنطق.

كل هذه التفاصيل تأخذنا إلى مواقع البحث بحماس كبير، مع إني أعترف بأن افتتاني بالموسيقى هو الذي ساهم بشكل كبير للوقوع في حب هذا العمل. فقد غطّت الموسيقى على بعض المشاهد غير المقنعة حواريا، وأدت دورا مهما في منحها قيمة جمالية عالية.

طيلة عرض تفاصيل حكاية المسلسل، كنت أتساءل أيضا «أنا في صفّ من؟» في البداية تعاطفت مع الزوجة هناء (منى زكي) ثم بعد تطور الأحداث، وجدتني متعاطفة مع الزوج حازم (محمد ممدوح) ثم ظهر المحامي مؤنس عبد الرحمن (محمد فرّاج) وأصبحت اللعبة فعلا شبيهة بلعبة الكرات الحديدية، التي لا تتوقف عن التصادم طالما إحدى الكرات في حركة.

فمثلا قرأت في «حلم المنحل» الذي راود هناء مهندسة الزراعة، رحلة ملكة النحل لتأسيس خلية والحفاظ عليها، إنّه بشكل ما دور المرأة ورحلتها في الحياة. هل كانت هذه النقطة مدروسة بهذه الدّقّة عند كتابة نص السيناريو؟ لا أدري لكنّها تصب في غريزة الأمومة التي تميل للاستقرار والتأسيس لعائلة.

وطالما الاستقرار يبدو صعبا في أرض الوطن وظروفه غير ملائمة لتأسيس عائلة وأطفال وتأمين مستقبل جيد لهم، فلا مهرب من تلك الرحلة بحثا عن الظروف المناسبة لذلك.

اختلف الجمهور في تقبل الشخصيات الرئيسية، وأدائها، رغم تعاطف فئة شاسعة مع هناء، التي تلقت تسجيل زوجها وهو يطلقها في ما كانت تعاني مخاض الولادة، ربما لأن الدراما العربية عموما تعتمد بالدرجة الأولى على الجمهور «اللطيف» لكن المتفق عليه هو استثنائية دور منى زكي، أعتقد أنه علامة فارقة بين أدوارها. أمّا الأداء المبهر لسيد رجب، فهو حكاية أخرى، فقد كان لحضوره هيمنة جمالية فائقة في إبراز جزء آخر من الحكاية، جزء الرجل العارف بكل ما يحدث، المتبصِّر، المتوقع للنتائج وفق قراءته للأحداث.

لنسجّل أن الغائب في شخصيات المسلسل هو «النضج» و «استقلالية الأفراد» وهو مقصود لكشف عمق مشكلتنا الاجتماعية. فقد تمنيت أن تتحرر هناء من تبعيتها للرجل عن طريق زيجات مفرغة من رابط الحب والانسجام الروحي والجسدي، وتستعيد ذاتها المرهونة دوما لذكرٍ، لكن فريق ورشة تامر محسن جعل النهاية

مستفزة للمتفرّج، حتى لا يكون مطمئنا إلى أن المشكلة انتهت، ولا أدري هل وصلت هذه الرسالة للجماهير العريضة؟ أم أن ما وصلهم هو أن المرأة العربية تحديدا عاجزة عن قيادة أمرها، وأن الحرية مفسدة لها؟

لقد توقفنا عند مشكلة كبيرة ومعقدة، كالطلاق الشفهي، والزواج العرفي اللذين يمكن اعتبارهما افتراضيان، ولا يمكن الأخذ بهما في الواقع الذي لا يعترف إلاّ بالمادّة الملموسة، لكن في لحظة ما شعرت بأن الفشل الذي لحق بشخصيات القصة كثير وغير مقبول.

ربما طُرِحت أفكارٌ ورؤى عديدة من خلال السيناريو، لأنّه وليد مجموعة من المبدعين، وهذا ما جعل السجال حاميا منذ احتدمت الخلافات بين الزوجين، حين أصبح كلاهما خارج الإطار الضيق لمجتمعه، لكن كل مشاعر الإثارة والتوتر التي عشناها على مدى شهر اصطدمت في النهاية بخيبة أمل، تحضرني هنا

رواية «أمريكا» للروائي اللبناني ربيع جابر، الذي يتقفى آثار بطلته مرتا حدّاد وهي تقطع القارات والبحار والمحيطات بحثا عن زوجها الذي هاجر من سوريا الكبرى (قبل تقسيمها) إلى أمريكا، بحثا عن لقمة العيش فتخلى عنها وانشغل بحياته.

وكيف سعت في ذلك البلد البعيد وحيدة لتحصيل رزقها، وكيف ثابرت بإيمان لا مثيل له لتحقيق ذاتها، حتى بلغنا آخر مشهد من الرواية، مشهد اقشعرت له الأبدان لأنه قدّم لنا نهاية سعيدة لامرأة استعادت ثقتها بنفسها، وبنت العائلة التي حلمت بها مع رجل آخر عرف قيمتها الحقيقية وندرة معدنها الأصيل.

أتساءل عند استحضاري مارتا حداد ومقارنتها مع هناء سالم زيتون، هل تغير الإنسان إلى هذا الحد؟ وإن كان الزمن يتقدم للأمام والحياة تتطور، فلماذا تدبرت مارتا أمورها أكثر من هناء؟ هل لأن مارتا دون رجل، وهناء واقعة في فخاخ رجلين؟ هل الأيديولوجيات الجديدة في الشرق هي التي حوّلت المرأة إلى كائن مهتز؟ فاقد لثقته بنفسه؟ لا مستقبل له دون رجل؟ وإلى أي مدى لحق التشوه هذا الرجل جرّاء هذه الأيديولوجيات؟

الرواية التي تعود بنا إلى مطلع القرن العشرين، لتروي لنا تفاصيل دقيقة عن أنماط الحياة المختلفة بين الشرق كعالم قديم عجوز لا مستقبل فيه، والغرب المتمثل في أمريكا كعالم جديد فيه تتحقق أحلام المستقبل؟ أي العالمين تغيّر نحو الأسوأ، وأيهما تغير نحو الأحسن؟ حسب «لعبة نيوتن» التي أدخلنا فيها تامر محسن، يبدو أن العالم بشقيه أصبح سيئا، وأن كلاهما لا يناسب الإنسان المستعجل لتحقيق أحلامه.

لقد أصيب الشرق بعدوى غريبة، فأصبح قلقا، مستعجلا، متسرعا، لا يطيق الانتظار، يريد فقط أن يقفز قفزة واحدة من أرضه إلى أرض الحلم الأمريكي، فتنفتح أمامه أبواب مغارة علي بابا بكل كنوزها.

«لعبة نيوتن» انتصار جديد للدراما المصرية، غاصت في الأعماق البشرية معتمدة المنهج النفسي لكشف ما تخفيه. لكل شخصية صندوق خفي في الأعماق يخفي مفاتيحها. لقد كان عملا تحليليا نفسيا، أعاد تركيب عقدنا، التي تبدأ صغيرة وتنتهي كبيرة حدّ الصدمة، وهو أشبه بالصفعة التي تعيدنا إلى رشدنا لنتعلّم كيف نعدُّ للعشرة قبل اتخاذ أي قرار في لحظة قلق.

ثمة رسالة مررت بشكل متكرر وتحولت لـ«ميمز» «لا أطيق الانتظار».. هي تلك بالضبط سرُ انحدارنا نحو النهايات المفجعة التي يجب تفاديها.

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي