النّقاء في حلبة القتال
2020-01-06
 بروين حبيب
بروين حبيب

عشرون سنة مضت بين لقائي الأول بالشاعر علي جعفر العلاق، ووقوفي معه على منصة تتويجه بجائزة سلطان بن علي العويس في دورتها السادسة عشرة، في حقل الشعر، وفي كلا الوقفتين ظلّت علاقتي الإنسانية به يسودها الكثير من الود والاحترام، التي بدأت سنة 99 في دبي، حين دفعني فضولي للتعرّف عليه، كشاعر وكاتب مقال تابعته بشغف طيلة سنوات.

أذكر أنني اتصلت به، ورتب لموعد، وكان من رقيّه أن حدّثني عن ابنته، التي عرّفني عليها في ما بعد، والتي كانت تحضر رسالة الماجستير آنذاك، وحين عرف أني كنت حينها أفكّر بالدكتوراه شجعني جدا، ولم يبخل عليّ بأي توجيه. نمت تلك العلاقة بيننا، كما تنمو علاقة أب بابنته، وهي أبوّة من نوع آخر قليلا ما تنمو بين شاعر وشاعر أو أكاديمي وأكاديمي، أو بين شخصين من الوسط نفسه، خاصّة وسط الشعراء بكل مزاجيتهم الغريبة. ما ميّز علي جعفر العلاّق أعجز عن وصفه، ولكنه بالمختصر كان رجلا ذا علم وأخلاق رفيعة والتزام.

يقول علي جعفر العلاّق: «طفل القرية يولد دوما قرب الشعر»، أما هو فقد كان أكثر حظا، حين ولد قرب الشعر من أبوين شاعرين بالفطرة، في بيت لعبت فيه رنّات الكلمات وإيقاعها دورا أساسيا لاحتضان نفسه الشاعرة، وصقل لسانه على جميل الكلام وأعذبه. قال لي إنه ترفّع منذ طفولته عن الكلام البذيء، حتى ما يروى في النكات منه، وأنّه ظل كذلك، يخجل الحاضر في مجلسه أن يخطئ بكلمة خارج سياق التهذيب. لم أعرف شاعرا امتلكه الشعر بدون أن يستعبده منذ طفولته مثله، رأى الشعر دائما أمامه، في طبيعة قريته، وفي بغداد، وفي أساتذته الشعراء، وفي قراءاته، وظلّت دهشته مرتبطة بالكم الهائل من الشعر حوله، كانت له عينان شاعرتان، حتى أصبح مؤمنا بأنه بإمكانه الاستغناء عن النقد، لكن استحالة منه أن يتخلى عن الشعر لو أنّه خُيِّر بينهما، مع أنه ناقد من الوزن الثقيل، وتكوينه الأكاديمي لم يتوقف على نهل العلم من مقررات الجامعة. وأفهم جيدا أن الشعر مادته الحقيقية، للتحليق عاليا في فضاءات لا قضبان لها، وليست المادة التي تضعه في قوقعة وتعزله عن الحياة. صورة العلاق الشاعر لا يمكن سوى أن تضعنا أمام فروسية الشعر في زمانها.

رحلته الحقيقية نحو فضاءات الخصب الأدبي كانت في بريطانيا، حين اختار طواعية أن يلتحق بجامعة أكستر، حيث دلته مشاعره على طريق آخر لتوسيع دائرة معارفه، وإرواء عطشه والامتلاء بمزيد من جماليات اللغة في تزاوجها مع منتجات المخيلة.

    أثار الشاعر النّاقد إعجابي دائما وهو يتحدّث في كل الموضوعات، حببني في القرى، والأنهر، والجسور، والمدن، والفصول، وهمس الطبيعة بكل ما تعلنه وما تخفيه من أسرار

أثار الشاعر النّاقد إعجابي دائما وهو يتحدّث في كل الموضوعات، حببني في القرى، والأنهر، والجسور، والمدن، والفصول، وهمس الطبيعة بكل ما تعلنه وما تخفيه من أسرار. لديه قدرة عجيبة على وصل قصصه ببعضها، حتى تبدو لسامعه أو قارئه سواء، نسيجا متكاملا وجميلا، لا إسفاف فيه ولا تصنّع. فمن المستحيل مثلا أن لا يشدنا حديثه وهو يروي الشتاء بطريقته الشعرية على سبيل المثال، وكيف في لحظتها، وبدون كثير تفكير، يستحضر باشلار – فيلسوف الرياضيات كما يسميه – ويستحضر بودلير، قبل أن يتوج كلامه بوصفه الخاص لشيخ الفصول.

في موقعه الشخصي لمن يريد أن يستمتع بأحاديثه، سيفهمني قارئ هذه المقالة ما أعنيه، ويدرك ملخّص ما أقصده من توصيفي له بفارس من فرسان الشعر الحقيقيين، هو الذي حدد بذكاء نابع من فطرته الشعرية، أن النص الذي يجعل القارئ يرى كاتبه ولا يرى فيه نفسه، إنّما دليل على فشل إيصال فكرته. ولتكن هذه وجهة نظره، لكنها تنطبق تماما مع ما رأيته دوما في كل ما قرأت ورفع ذائقتي الشعرية وزاد من حرصي على التعامل مع الشعر كدفء خاص أتقاسمه مع الآخر، بدون تعمدٍ لاستعراض للذات. لقد حرصت جائزة العويس منذ تأسيسها على تتويج كتاب وشعراء وفنانين يستحقون ذلك، ولعلّها لو كانت قادرة على تتويج المزيد من المعطائين في عالم الثقافة، خلال حفل واحد لما تأخرت، لكنها التزمت ببعض التقاليد لفرض ما يحفظ لها وقارها بين الجوائز، وهذا بالضبط ما تحقق لها منذ تأسيسها إلى يومنا هذا. ولعلّ وقفتي اليوم عند العلاق دون غيره، إنّما للتأكيد على أهمية الشاعر ومراجعة معطيات سابقة، كانت تثني على أهمية الشعر كعنوان فضفاض، تتسلسل تحته عناوين ثانوية، وأنواع كثيرة من النصوص التي وإن قامت على بعض مكوّنات الشعر، إلاّ أنّها تفتقر للمقوّم الشعري الذي يشكّل فعلا هويتها الشعرية.

لم تفاجئنا هذه الجائزة يوما، ولم تحيرنا أو تُحبِطنا، ويمكن العودة على بعض ما كتب عنها في دورتها السادسة عشرة، لمعرفة ما قد يخالف رأيي، إذ ثمة إجماع على أن الجائزة حافظت على «قدرتها على الاستمرارية، والتّجدد كمنبر نادر للفكر والثقافة يقاوم السطحية والابتذال الرّائجين في عالم اليوم».

الفائزون اعتبروا الجائزة تتويجا لمجهودات عمر بأكمله، وهي على عراقتها اليوم منذ تأسيسها عام 1987 من طرف الشاعر المثقف سلطان بن علي العويس، لم تذهب لشخص لا يستحق المكافأة، بقدر ما كانت مكافأة اجتهاد شخصي طويل، أعطى ثمارا على المدى الطويل، وهذا ما لمسته شخصيا في تصريح العلاق حين قال إنها «مؤشّر رفيع وعميق جدا على أن قصيدتي ومشروعي الشعري، وما بذلت من أجلهما من تعب وسهر عظيمين، ومن حرمان من متع عابرة في الحياة… كل ذلك يعني أني استطعت إيصال صوتي الشعري» وهذا شعور عظيم فعلا في خضم أزمة حادّة يعيشها المجتمع العربي، بمختلف هوياته الجغرافية، على مستوى التّلقي والتّعبير. ويبدو أن السوداني حيدر إبراهيم علي الفائز بالجائزة عن فئة الدراسات الإنسانية والمستقبلية باح بما يبعث فينا الأمل، ولو بعد فترة زمنية طويلة حين عبّر عن فرحته قائلا: «السودان ليس على أبواب ثورة سياسية فقط، بل على أبواب عصر نهضة يعيش فيه إنسان جديد ومجتمع جديد، يختلف تماما عن كل الثورات السابقة».

هل يمكن لجائزة أن تكون مؤثّرة كل هذا التأثير؟

بمجرّد أن يخرج إلى ضوء منصتها شاعر غير مستهلك إعلاميا، بجدية وجمالية العلاق، وكل من شاركه فرح تقاسمها، تعلو الثقافة درجات في سلم حياتنا اليومية، التي يشترك كل الفائزين بها بهواجسهم الثقافية التي أخذوها على عواتقهم كأمانة في أعناقهم، أقول ذلك عن معرفة جيدة بأغلب الفائزين بها، سواء عن طريق الاحتكاك المباشر بهم إنسانيا، أو كمتلقية لبعض نتاجهم الفكري والأدبي والفني…

الجدير بالذكر، الذي قد لا يخطر على بال أحد، هو أنني عشت سعادة حقيقية خلال حفل تسليم الجوائز، كنت الحاصلة على جائزتي منذ بدأت بتقديم هذا العيد السنوي، وأعتقد أن ذلك نابع من شعوري العميق بأنني جزء من تلك الطّاقات المبدعة التي لم تكلّ ولم تملّ من مواصلة مشروعها، رغم عقبات محاربته بكل أشكال العنف الخفي، من رفض وتعطيل وتشويه والمنتشر بشدّة اليوم في المنظومات الثقافية، التي اعتمدت مقاييس قاتلة جعلت الصراع شرسا ووحشيا وغير عادل أحيانا من أجل بقاء الأنقى والأجمل والأفضل.

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين


مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي