في فبراير (شباط) الماضي، عندما أطلقت إدارة بايدن الجديدة محاولتها الموعودة لإحياء «الصفقة النووية» لأوباما مع الجمهورية الإسلامية، وصفها المدافعون بأنها محاولة لمنع حرب أخرى في الشرق الأوسط. وردد ذلك صدى الشعار القديم القائل بأنه في التعامل مع النظام الخميني حتماً سيكون الخيار بين الاسترضاء والحرب الشاملة.
فشل أتباع هذا الشعار في فهم أنه في التعامل مع الملالي، فإن التهدئة هي التي تشجع على الحرب. وهكذا ما إن تم نشر فرقة الاسترضاء التابعة لبايدن حتى أنهى آية الله علي خامنئي، رجل الدين الذي يترأس النظام الخميني، ما يقرب من أربع سنوات من ضبط النفس النسبي بمحاولة إعادة إحياء العديد من النزاعات بوضع الجمر تحت ألسنة اللهب.
بدأ خامنئي باليمن، حيث سحب سفارته وبعثته العسكرية ورجال دعايته الدينية ونقلهم إلى عمان (بصفة مؤقتة)، ثم أرسل أحد جنرالاته كسفير جديد في مهمة لتحديث آلة الحوثيين الآيلة للسقوط. كانت الخطوة التالية هي تسريع إمداد وحدات «حزب الله» في لبنان بالصواريخ الجديدة، وتبع ذلك تبرعات نقدية ضخمة لـ«حماس» و«الجهاد الإسلامي» في غزة مقابل إطلاق جولة جديدة من الهجمات الصاروخية على إسرائيل. وأمر كذلك ببناء عسكري على حدود إيران مع أذربيجان وأرمينيا، للإشارة إلى نهاية الوجود المخفض للقوات الذي اضطر إلى قبوله خلال إدارة ترمب.
لكن هذا لم يكن كل شيء. فاعتقاداً منه أن الإدارة الأميركية الجديدة قد تساعده في حل مشكلة التدفق النقدي، أعاد المرشد الإيراني صياغة الميزانية الوطنية الرسمية التي أعدها الرئيس المنتهية ولايته حسن روحاني لزيادة حصته العسكرية بشكل كبير. تتضمن الميزانية المعدلة - التي تم تسريعها عبر البرلمان المبتذل مثل سكين في الزبد - زيادة بنسبة 62 في المائة في حصة «الحرس الثوري». وتضمنت الموازنة زيادة حجم «فيلق القدس» بواقع 40 في المائة، وهو المسؤول عن تصدير الثورة والحفاظ على القدر يغلي في اليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان، وغزة. ويقدر البعض الزيادة الإجمالية للميزانية العسكرية الإيرانية منذ عام 2019 بنحو 150 في المائة.
والرسالة التي ستصل إلى الوكلاء في المنطقة وخارجها هي أن طهران تتوقع أن تكون قادرة على إنهاء التخفيضات في الميزانية التي كانت قد أجبرت على تفعيلها خلال فترة ترمب لأن الولايات المتحدة، بغمزة وإيماءة، تسمح لبعض الحلفاء، ولا سيما كوريا الجنوبية واليابان، بالإفراج عن جزء من الأموال المدينين بها لواردات النفط.
من الناحية الدينية، يرى خامنئي ورفاقه أن الصفقة المتوقعة مع بايدن هي «الفرج بعد الشدة» التي وعد بها الله المؤمنين الذين يمرون بفترة معاناة من دون أن يفقدوا إيمانهم.
يبدو أن آية الله مصمم على استخدام هذه الفرصة لتغيير التوجهات في السياسة الداخلية أيضاً. تظهر قائمة «المرشحين المعتمدين» المؤلفة من سبعة رجال والتي أطلقها للانتخابات الرئاسية المقبلة، أنه يعتزم تنصيب حكومة حرب من المتطرفين الموالين تماماً لشخصه.
هل يعني كل ذلك أن «المرشد الأعلى» يستعد للحرب؟ ليس تماماً إذا كنا نعني بالحرب صداماً كلاسيكياً واسع النطاق للقوات العسكرية في البر والجو والبحر.
يعلم خامنئي أن جيشه غير المنظم والمنقسم إلى فيالق وقيادات لا حصر لها ذات ثقافات ومصالح متضاربة، وغالباً ما يكون مثقلاً بكل ما هو قديم ومتهالك، ليس في وضع يسمح له بخوض حرب كلاسيكية ضد عدو خطير. لا أحد من كبار جنرالاته الـ13، وجميعهم في سن التقاعد ومنخرطون بعمق في أنشطتهم التجارية الخاصة، يمتلك صورة الفاتح المفترض.
يعترف خامنئي ضمنياً بذلك من خلال تكرار شعار «لا حل وسط ولا حرب».
وبقدر ما يتعلق الأمر بالدبلوماسية، فإنه سيلعب اللعبة التي بدأتها طهران منذ ما يقرب من 30 عاماً من خلال التفاوض على اتفاقيات حول «القضية النووية». قال وزير الخارجية الأميركي الجديد أنتوني بلينكن، إن الهدف هو إقناع طهران بتقليص أنشطتها النووية بحيث لا تقل عن عام واحد على الدوام لتصنيع قنبلة. فخامنئي الذي لا ينوي صنع قنبلة في هذا الوقت مستعد لأن يقدم للأميركيين الحلوى التي يتوقون إليها.
قال خامنئي الشهر الماضي: إذا قررنا تصنيع القنبلة فلن يستطيعوا (فريق بايدن) ولا من هم أكبر منهم إيقافنا. يجري تصنيف ذلك النوع من الحرب بطرق عدة مختلفة: حرب بالوكالة غير متكافئة، منخفضة الكثافة، منخفضة التكلفة. وإدراكاً منه أن فقط قلة من الإيرانيين مستعدون لخوض حرب من هذا النوع، فإنه يخوضها من خلال عملائه والمرتزقة المجندين في باكستان، وأفغانستان، والعراق، ولبنان، وغزة، واليمن. إن استخدام المرتزقة في مثل هذه الحروب له تاريخ طويل. فقد استخدم الخلفاء العباسيون العبيد المملوكين الأتراك وكان العثمانيون يمتلكون «الباشبازوق» (الجنود غير النظامين في الجيش العثماني) بينما استخدم الصفويون «القزلباش» والبشمركة الكردية. واستخدم البريطانيون في الهند الجوركا النيباليين، وقام الفرنسيون بأعمالهم الاستعمارية حينها من خلال المجندين العلويين المعروفين باسم «المساعدون».
وفقاً لأفضل التقديرات، أنفقت الجمهورية الإسلامية نحو 20 مليار دولار في حروبها المختلفة المنخفضة التكلفة منذ عام 2000، وهو مبلغ متواضع نسبياً مقارنة بالتكلفة الهائلة لحرب شاملة. وبحسب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، فإن النظام يحتاج إلى 60 مليار دولار على الأقل سنوياً لتغطية تكاليفه الأساسية والبقاء ليواصل حملته المستمرة منذ عقود لزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط على أمل تحقيق ما وصفته صحيفة «كيهان» الناطقة بلسان الخميني، بأنه «التسونامي الحتمي للثورة الإسلامية» الذي من شأنه أن يؤسس قاعدة جديدة للغزو النهائي للعالم من خلال «الإيمان والعدالة» من قبل جبهة المقاومة التي تقودها إيران.
يتحدث أنتوني بلينكن عن آماله في تحقيق «انفراج» في المحادثات «النووية» المتوقفة حالياً. وخامنئي أيضاً يريد انفراجة تستند إلى وعد بتخصيب اليورانيوم الذي لا يريده أن يقل مقابل التدفق النقدي الذي يحتاجه لإعادة تنشيط حربه الخاصة التي توقفت مؤقتا ضد الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، أو في الواقع، ضد ما يُعرف غالبا باسم «النظام العالمي».
إن الخوف من حرب وهمية قد يؤدي إلى صفقة تسمح باستمرار حرب حقيقية خلف واجهة سلام وهمي.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الأمة برس