بالأبيض والأسود إلى أن نؤمن بالحب
2021-03-22
 بروين حبيب
بروين حبيب

لم أتوقع أن أرى فيلما بالأبيض والأسود، حين دعيت لحضور فيلم «ملح الدموع» لمخرجه الفرنسي فيليب غاريل، كما لم أتوقع هذا النمط من الأفلام، الذي ربما تتميز به السينما الفرنسية عن غيرها، مثل الحوارات المبتورة، الصمت الزائد، ترك المشاهد أمام احتمالات كثيرة لقراءة الفيلم، وغيرها من أمور جعلتني أغرق في بحث طويل عريض ليس فقط لفهم الفيلم، بل لخلق متممات له لاحتواء معانيه الغريبة، وقد تفاجأت أن ما ذهبت إليه ليس غريبا ولا خارج المألوف، فالمخرج فيليب غاريل يُحِب أن يجعل من متفرجه ناقدا في الوقت نفسه، كما يترك له خيارات بناء نهاية افتراضية، كلٌّ حسب قراءته الشخصية للفيلم.

من هذا المنطلق ونحن نناقش الفيلم في جلسة شبه حميمة في سينما عقيل، التي حدثتكم عنها سابقا، وهي من المبادرات التي كسرت ظاهرة انطفاء أضواء صالات السينما، أدركت أن الفيلم مثير لعدّة تساؤلات، تبدأ بهذا الأبيض والأسود، الذي فتن المخرج في حياته، وهو من المخرجين الكبار الذي لا يهمهم إن عاشوا كل حياتهم على الهامش، شرط إخلاصهم لمبادئ معينة، والتزامهم بخط معين.

ينجرف الفيلم بمشاهده البطيئة الإيقاع، انجرافا جماليا تأمليا نحو الحلم، ألسنا نرى الأحلام بالأبيض والأسود كما تقول الدراسات؟ لكن لماذا يبالغ غاريل في تكثيف الأسود في فيلمه؟ لماذا يعطي مساحة أكبر للظلال، والأضواء، للضجيج، والصمت، وثنائيات أخرى ندركها تباعا ونحن نتابع أحداث الفيلم؟

الاكتشاف الأول الذي حققته، أن غاريل عاشق للأبيض والأسود، و»ملح الدموع» ليس فيلمه الأول دون ألوان، وهو يختلف حتما عن فيلم «الفنان» لمواطنه ميشال هازانيفسيوس، الذي نال خمس جوائز أوسكار عام 2011، كما يختلف عن فيلم «قائمة شيندلر» الذي أخرجه ستيفن سبيلبيرغ عام 1993 الذي حصل على سبع جوائز أوسكار.

لا مشاهد بالألوان نهائيا في «ملح الدموع» لا نقلة زمنية إلى الماضي، إنه الحاضر العابث بالجسور العاطفية، التي يفشل بطله في بنائها، اللااستقرار، حتى في الراوابط الجسدية بينه وبين نسائه، إذ يدخل بطله في علاقات غير مثقلة بأعباء الحب، رغم انغماسها تماما في اللذة الجسدية الآنية. لكنّه لا يتوقف عن البحث عن أجوبة متعلّقة بوجوده أو هذا ما نستخلصه.

يُطرح السؤال مرارا عن الفرق بين الحب والنزوة، عبر مشاهد حارّة، تُرى كيف يعرف الإنسان متى يحب ومتى ينجرف في نزوة؟ باريس التي تشكل الفضاء المكاني لغاريل في أفلامه، تجمع «لوك» بنساء مختلفات، لكنه قبل ذلك يترك خلفه عشيقة في الريف حملت منه إثر علاقة عابرة، يعاملها بلامبالاة غاية في القسوة، حتى أنها حين تلجأ لوالده لا تتلقى جوابا يحمسها على الاحتفاظ بالجنين، يقول لها إنه يتمنى أن يتزوجها لوك لكنه لا يتوقع أن يفعل ذلك.

تترتب نساءه في ما بعد على الشّكل التالي : امرأة ترفض إقامة علاقة جسدية معه فيتركها، رغم إعجابه بها وإعجابها به، وامرأة يتعلّق بها عاطفيا وجسديا لكنها تصدمه بإدخال طرف ثالث في علاقتهما، زميل لها في العمل تفضل أن تقيم علاقة معه من حين لآخر، وتخيّر لوك بين قبول الأمر كما هو أو تركها. علينا أن نرى ترتيب السلم العاطفي لدى لوك وفق نسائه كما يلي: حب وجنس، حب دون جنس، جنس وجنس، لنستنتج أنه يختصر بذلك أقسى العلاقات الجسدية والعاطفية، وأن عذابات النفس تنشأ من هذه الثنائيات غير المنسجمة، وهي شبيهة بتلك العلاقة المشوهة بين لوك ووالده، علاقة تتمثل في الامتداد الجسدي -الجيني، لكن خلوها من رابط عاطفي – روحي (الحب الذي يقابله الحب) قدمها في أكثر صورها إيلاما.

يخوض غاريل في موضوع قديم متجدد، حول العلاقات الإنسانية العميقة بين الرجل والمرأة، ويبدو أنه موضوعه المفضل في كل أعماله، حسب قراءاتي، وهو يلجأ لجعل بشاعة الصورة الذكورية في هذا الانتقال الجنسي للرجل بين شريكات متعددات، كما لو أنّها وخز حقيقي للمشاعر، رسالة متكرره في أعماله. يغيب الشرح اللغوي لكل ما يحدث من استخفاف بالأحاسيس المرهفة ببلاغة الصورة، وكأنّه يقول هكذا تكون الأمور، دون ثرثرة، ودون مناقشات صريحة يخسر لوك نفسه في الأخير، حين تكتمل أمامه بشاعته الشخصية، وهو يتلقّى خبر موت والده، في خضمّ فوضى المتعة التي كان يعيشها خلال علاقاته. يأتيه خبر الموت في لحظة إدراكه لمعنى الحب المرتبطِ بمفهومٍ أخلاقيٍ لا مهرب منه.

فيبكي بحرارة غير متوقعة، لقد عرف لحظتها، أن هوة الفقدان لا يمكن ردمها بسهولة، لا نعرف بالضبط هل عرف معنى الحب الحقيقي، كخيط إنساني متين يربط الأشخاص بعضهم ببعض، من خلال علاقته بوالده الذي رآه دوما «رجلا بروح شاعر» أم أنه خبِر ذلك الشعور السامي بعد رحلة طويلة كللتها العثرات؟

أعيد تشكيل كل تلك المشاهد كلٌّ وفق محمولاته، فأرى كثافة الصورة التي يقترحها غاريل، ويتركنا معلّقين بها. إنّه يجلدنا بلا هوادة، حتى نعترف بآثامنا. يخترقنا مثل نصل حاد، ويلامس منبع الألم في أعمق نقطة في أعماقنا.

في قراءة مغايرة يعتبر الإخفاق ثيمة جيدة لرسم حدود الأشياء الثمينة في حياتنا. أمّا العواطف المتوقدة داخل قلوب مجهزة بأنواع من المتفجرات الخطيرة، فغير وارد، تتبعها حتى لحظة انفجارها، فالغيرة، والغضب، والألم، والنقمة، والانتقام وغيرها من المشاعر الشائكة والسامة، تنبعث من المتفرّج، وهو يتابع عمل غاريل الهادئ البارد أحيانا، قد يبلغ متابع هذا الفيلم وأفلام أخرى للمخرج نفسه درجة الغليان والانشطار في تجربة سينمائية فريدة، تجعلنا نختبر مشاعر تتماهي مع مشاهد في غاية البلادة أحيانا.

إنّها السينما التي لا تكتفي بشاشة عرض واحدة، بل بشاشتين واحدة أمام أعيننا وأخرى أمام بصيرتنا في الأعماق.

المخرج البالغ من العمر اثنين وسبعين عاما، يقدم في هذا العمل وفي غيره من أعماله، نساء ورجالا، يعيدون اكتشاف بعضهم بعضا، أزواجا، وعشاقا، وباحثين عن المتعة العابرة. يصفه أحد النقاد بأنه «يصنع ترياقا مذهلا للكآبة» فيما تصفه إيميلي بارنيت، بأنه يقدم أفلاما «نسوية مليئة بالعطاء والمحبة» وبأنه يرسم الشخص المخدوع بعماه الذاتي… بتعبير آخر أكثر دقة، غاريل رجل تُعشش في داخله ظلال امرأة، رؤيته للواقع تحمل هذه الثنائية إلى الأبد، وهي توقيع خاص به على مدى كل أعماله، التي تجاوزت 28 فيلما، إذا احتسبنا أفلامه القصيرة، وبعض ما قدمه للتلفزيون.

يشعرنا دوما بضيقه من سفالة الذكور، وينقل ذلك بطريقة تشبه الصفعة القوية المفاجئة، عبر ممثلين يشبهون عامة الناس، يرفض النجومية التي تسوق لأفكاره وتسرق روح العمل، وهذه عبقرية من نوع آخر لم نألفها على الأقل في عالم الدراما عموما بكل أنواعها.

المؤكّد أننا لسنا أمام «هوليوود» بكل أضوائها التي تحرق العيون أحيانا، هذا عالم «غاريلي» بامتياز، يعج بجماليات غير مبالغ فيها، بأجساد تائهة، قلوب نسمع نبضها، لهاث حقيقي للتعاسة السوداء التي تملأ العالم اليوم.

أمّا عن أنين النساء فهو الموسيقى المنبعثة من صمت مشاهده، مضاف إليها ذلك الحزن الأسود الذي يغمر كل شيء، إلى أن يتعرّف هذا الكائن المتعجرف على الحب، فيتعامل مع نفسه وغيره بالحب، حتى تتزين روحه بالألوان، فينعكس ذلك على كل شيء حوله. غاريل حالة استثنائية، أو لنقل ظاهرة سينمائية فريدة، أعماله مثل الثمرة النادرة المجهولة النوع، قلة من يعرف متى وكيف تؤكل، لكنّه النموذج الأنسب لنخبة لا تزال واقفة في صف المحاربين من أجل الحب، مرددا «أيها العالم الحب موجود».

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين

*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع

 



مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي