عالم متشائل!  
2021-01-01
أحمد الفيتوري
أحمد الفيتوري

 

أذكر أني كنتُ في حالٍ، كما حال العالم الآن: لا أعرف أين الأين، ولا كيف الكيف؟ حين قرأت رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، وتُعرف باختصار "المتشائل"، وهي رواية ساخرة، من تأليف الروائي الفلسطيني إميل حبيبي صدرت عام 1974.

تدور أحداث الرواية حول سعيد أبي النحس المتشائل، وهو فلسطيني من الأراضي المحتلة عام 1948، في فترة الحكم العسكري الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي على المواطنين الفلسطينيين.

وأوجد حبيبي كلمة جديدة، من خلال نحت كلمتَي تفاؤل وتشاؤم، ليصوّر حالة عرب الأراضي المحتلة عام 1948 وهي "التشاؤل"، التي تحمل معنيَي التفاؤل والتشاؤم مندمجَين.

فإن حصل مكروه للمتشائل، فإنه يحمد الله على عدم حصول مكروه أكبر، أو كما شرحت الرواية "خذني أنا مثلاً، فإنني لا أميز التشاؤم عن التفاؤل. فأسأل نفسي: من أنا؟ أمتشائم أنا أم متفائل؟ أقوم في الصباح من نومي، فأحمد الله على أنه لم يقبضني في المنام. فإذا أصابني مكروه في يومي، أحمده على أن الأكره منه لم يقع، فأيهما أنا: أمتشائم أنا أم متفائل؟".

ولاقت هذه الرواية حين صدورها، صدىً كبيراً، ثم نُسيت أو دفنتها الأيام التوالي المترادفة. وكذلك حصل لصاحبها إميل حبيبي، وفلسطين ما غدت قضية الأمس القريب.

لكن تشاؤل "حبيبي" سطع في الفضاء كأثير أثير، فالمرء في عام 2020، متفائل رغبوي متشائم واقعي، وفي هذا تبدو البشرية كائناً واحداً، أو كما آدم، وإن تعدد وتباينت وجوهه.

الأوضاع الحالية تنضح بفقدان البشرية لهويتها، فالخطر محدق بالمرء، الكل واحد وليس كمثله شيء، ومكنة زوال الخطر قائمة لكن بثمن باهظ. إن الزوال في حجم وسرعة فيروس، أسرع من الضوء، نسبية أينشتاين التي غيّرت وجه الكون، لا تعادل حتمية الزوال الساطعة، البازغة بأقوى من الشمس.

لم يتمكن "حبيبي" من يقين الزوال فيتشاءم، كما لم يكن قادراً على البقاء فيتفاءل، والحق أنه لم يكن بين البين وإن نحت أنه المتشائل.

نباهة "حبيبي" من أثر القهر، فالغبن الذي أفقده الصيرورة، نبّهه إلى أن وجوده في ذاته بخطر.

تقريباً سنة 2020 علقت الجرس في رقبة القط، كل ما فات فات، لكن الأدهى أنه لا شيء يحدث ولا أحد يجيء، في غضون "سنة – حقبة" لم ير البشر مثلها، بل حتى لم يتصورها أحد على الرغم من سورة القيامة. زوال الصور التي تصورها الإنسان للمآل، على الرغم من هذا، وباحتمال كبير مؤكد، هو أن البشرية ستنجو من محنتها، لكن بندبة في الروح مفادها أن الزوال بات كما القيامة الآن.

أقدّر أن ما نشاهد من تغضنات، تتمثل في التمرد على سلطة صحية، تعبّر عن الخوف من المستقبل، بخاصة وأن "عام 2020 الجرس"، الذى دُق بيد مضرجة، يعلن أن النجاة من الموت من المرض، يعني أن هناك احتمالاً كبيراً أن يأتي بعام الجوع.

ولذلك فقد البشر يقينهم، وغصّ الساسة في احتمالات مفتوحة، وخرس الفلاسفة والمفكرون عن كل تخرصاتهم، وأجمع الجميع على أنهم متشائلون.

كان "حبيبي" متيقناً من شكوكه، في أن عالم اليوم، الذي يعيشه، لا غد له، ومن هذا الوضع أطلق صرخته، التي تشبه صرخة طفل عند ولادته، حيث عالم "حبيبي" عالم ليس له، كما أنه عالم مفقود لا شبهة ليقين فيه. من هنا، كان يقين "حبيبي" أن فلسطين وطن الحلم الموؤد، فتشاءل حين تكون بين بين.

يبدو أن "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، تشكل رواية لحال البشر عند تقاطع طرق، كل اتجاه يؤدي إلى الشك في الغد.

عام 2020 ليس رواية، لكنه يحمل حالة الفقد ذاتها، فقد اليقين في ما هو قادم، في التقدم والتطور والتغيير.

عالم متشائل واضح وضوح الشمس، لأنه عالم فقير لا خيال له، كي يجعل من التشاؤل مركِبه للخوض في بحر ما بعد 2020، ولأن ليس ثمة غد على قارعة الطريق، لكن لا بُد من طريقة تُسلَك للخروج من بوابة تراجيديا 2020، السنة الظالمة حيث يُفتقد الفجر، التي فيها لم تعد فلسطين وطن الحلم حتى.

ثمة مفردة تختزل حالاً، وثمة حال شائك، فاليوم يفتقد غده عند مجمل البشر، مَن يعيشون بما يستلفون من بنك القلق، من أميركا الدولة العظمى إلى ليبيا التي كانت جماهيرية عظمى! فالعالم غص بعام 2020 كما لم يحدث قبل، وكل ما مضى ليس به زوادة لمُقبل، فهل يكون الخيال خيراً مخصباً للأرض المحل؟ وصية حبيبي المتشائل خصبة في هذا الحال.

 

*كاتب ليبي

*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع



مقالات أخرى للكاتب

  • ما بعد الجائحة
  • أنت لمن؟
  • الخطر شرقاوي وليس إسلاميا





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي