لبنان يسير إلى الخلف نحو المستقبل
2020-10-26
طوني فرنسيس
طوني فرنسيس

على الرغم من حدّة الأزمة التي يعيشها لبنان، لا يزال متاحاً القول إن اللبنانيين لم يذهبوا إلى الأسوأ، وما زالوا قادرين على التحادث والتحاور والتفاوض لإنجاز صيغة ما لإدارة شؤونهم.

كان بمقدور الانهيار الاقتصادي والمالي المتصاعد منذ أكثر من عام، والانقسام الحاد على المستويات الطائفية والمذهبية والمناطقية، أن يقودا إلى انفجار أهلي أمني واسع، أو أقله إلى صدامات عنيفة متفرقة تؤسس لمثل ذلك الانفجار.

 وشهدت انطلاقة الاحتجاجات الشعبية في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، بوادر من هذا النوع، تمثّلت خصوصاً بهجمات مدبّرة من جانب الفريق المنظم والمسلح حزب الله، على المتظاهرين السلميين.  إلا أن هذه الهجمات التي اتخذت شكل اعتداءات موضعية، لم تتحوّل إلى نهج عام على الرغم من استنادها إلى تبرير سياسي يصنّف الاحتجاج الأهلي في خانة التآمر على "المقاومة لمصلحة الأعداء" الإسرائيليين والأميركيين، وكان السبب الرئيس لمنع ذلك المسار، طبيعة الحركة الاحتجاجية وتنوّعها الطائفي والمذهبي وشعاراتها الإصلاحية والتغييرية التي تتخطى شرانق الانعزال التي تحتمي بها قوى التقليد المتحكمة بالبلد.

سبب آخر جعل الانتقال إلى صدام أهلي واسع أمراً مستحيلاً هو أن اللبنانيين عموماً عاشوا وعانوا من تجارب الحروب الأهلية المدموغة بتدخلات ودعم أطراف خارجية. انقسموا بين داعم للمنظمات الفلسطينية ورافض لتمدّدها على أرض لبنان، ثم بين مؤيد للتدخل السوري ومعترض عليه، وبين متعاون مع الغزو الإسرائيلي ومقاوم لاحتلاله. وفي كل تلك التجارب، دفع لبنان واللبنانيون والمقيمون على أرضه أثماناً غالية في الأرواح والممتلكات، فدمّرت العاصمة ومناطق بأكملها، وهجّرت عائلات وطوائف، ثم في النهاية اضطر الجميع للعودة إلى مجلس نواب منتخب قبل اندلاع الحروب اللبنانية بثلاث سنوات (1972) وأقر اتفاق السلام في مدينة الطائف السعودية عام 1989.

كان لبنان ولا يزال أرضاً خصبة للتدخلات الخارجية، وأتاحت تطورات الأشهر الأخيرة فرصاً كبرى لأطراف راغبة في تثبيت حضورها أو في إيجاد موطىء قدم إضافي لها. وإيران ليست وحدها البلد الذي يطمح إلى توطيد وتوسيع نفوذه، وهي باتت منذ انسحاب سوريا وانهيارها لاحقاً، الطرف الخارجي الأقوى في لبنان.

فتركيا أردوغان تحاول بشتى السبل إيجاد منافذ إلى بلد الأرز، من ضمن سياستها المشابهة لسياسة إيران في توسيع مناطق النفوذ والهيمنة. وليس سرّاً في لبنان أن السياسة الأردوغانية دفعت خلال الأيام الأخيرة إلى تنظيم تظاهرات عنيفة باسم الدفاع عن الرسول، في إطار المواجهة مع سياسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المعارضة للنهج التركي في ليبيا وشرق المتوسط.

لم تعد سياسة البلدين المذكورين مغرية أو قادرة على ارتكاب المزيد من الغشّ، فأمامنا تجربتهما في سوريا وفي العراق واليوم في ناغورنو قره باغ. في سوريا، قاد نهجهما إلى اقتسام البلاد ووضعها بشكل ثابت على خط الحروب الداخلية ومنع التقدم خطوة واحدة على طريق التسوية السياسية، الأمر الذي يثير غضب شريكهما في مسار "أستانا"، الروسي الذي ينسب لنفسه فضيلة القضاء على الإرهاب في سوريا ورعاية فرص الحل السياسي.

أما في العراق، فيتّفق الإيرانيون والأتراك على قضم سيادة الدولة، وفي القوقاز تنظّم أنقرة حرباً عبر أذربيجان ضد أرمينيا، واضعةً موسكو أمام إحراجات قد تقودها إلى تورط عسكري، فيما تقفل إيران أجواءها أمام الطيران الروسي المتوجه إلى قاعدته العسكرية في أرمينيا.

كان يمكن للبنان أن يذهب في تيار التلاطم الإقليمي والدولي فيدفع أثماناً إضافية من دون جدوى.  والمخاطر في هذا الشأن لا تزال واردة إذا لم يتم التوصل بسرعة إلى تشكيل حكومة تنجز الإصلاحات وإعادة الإعمار وإطلاق النمو الاقتصادي.

 وفي الخلاصة لا بد من أن القوى السياسية الممسكة بالسلطة استنتجت، تحت ضغط الشارع وتعقيدات الظروف المحيطة، ضرورة إنجاز تسوية ما ولو بعنوان "السير إلى الخلف نحو المستقبل"، على قول إحدى الصحف الروسية. وهي تسوية بدأت بقبول ترسيم الحدود مع إسرائيل ولا تنتهي بمجرّد إعادة إنتاج نظام المحاصصة القائم، فالمطلوب، وهذا ما يقوله اللبنانيون المأزومون: "استعادة الدولة بكل مواصفاتها".

 

 

*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع



مقالات أخرى للكاتب

  • المنطقة في عام الحرب
  • قمة استثنائية في ظروف استثنائية  
  • حل الدولتين إذ تفرضه الكارثة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي