

تثير المتابعة الأميركية لتنفيذ اتفاق غزة اهتماماً كبيراً لدى مختلف الأوساط المعنية في المنطقة وعلى امتداد العالم. فللمرة الأولى تبدي الإدارة في البيت الأبيض مثل هذا الاهتمام العملي في الإشراف على تنفيذ بنود اتفاق اقترحته وعملت على إقراره في احتفالية دولية، متضمناً رؤية شاملة لا تطاول فقط بقعة في النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، وإنما أصل النزاع نفسه، بما يقطع الطريق على مشروعين يلتقيان على نسف فكرة الدولة الفلسطينية، المشروع الإسرائيلي الذي يتبناه متطرفو إسرائيل والمشروع الإيراني الذي يقوم على ثابتة تأجيل الصراعات من دون أخذ مصالح العرب والفلسطينيين بعين الاعتبار.
تحولت غزة بعد الاتفاق المكرس في شرم الشيخ إلى العنوان الأبرز لشكل التدخل السلمي الأميركي، بعد تقديم أقصى الدعم العسكري لإسرائيل خلال المعارك، واستناداً إلى ما سيحصل في غزة سيمكن توقع طريقة معالجة المشكلات المتفرعة والمشابهة ولبنان أبرزها، كونه بطريقة ما، لتلاصقه الحدودي مع إسرائيل وبسبب تطوع "حزب الله" فيه بقيادة إيران لخوض حرب مع تل أبيب، بهدف عرقلة حربها في غزة وإسناداً لمقاتلي "حماس"، الساحة الأقرب التي سيجب حسم أمورها منعاً لتكرار تجربة حرب غزة نفسها، وتأسيساً لقيام حالة شرق أوسطية تلائم عملية سلام شامل أساسها موجود في خطة غزة الترمبية، خصوصاً إشارتها في أحد بنودها إلى قيام الدولة الفلسطينية.
ويخطئ من لا ينتبه إلى جدية التعامل الأميركي مع الشأن الغزاوي والفلسطيني، بالتالي الإقليمي، بعد قمة شرم الشيخ التي شهدت التوقيع الدولي على خطة السلام في القطاع. فخلال ساعات، وطوال الأيام اللاحقة للقمة حضر ممثلو ترمب من أركان القيادة الأميركية إلى إسرائيل للتأكد من سير تنفيذ ما اتفق عليه بدقة. وصل صهر الرئيس جاريد كوشنير ومبعوثه الخاص ستيف ويتكوف ثم لحقهما نائب الرئيس جي دي فانس فوزير الخارجية ماركو روبيو... هؤلاء جميعاً حضروا للقول إن إرادة ترمب يجب أن تستجاب ولا مجال للاجتهادات التي قد تخطر في بال بنيامين نتنياهو أو متطرفي وزارته، ولا في بال "حماس" ومن تبقى من داعميها.
شبهت إحدى الصحف الإسرائيلية هؤلاء المبعوثين في حضورهم إلى مكتب نتنياهو بموفدي دون كورلياني الذين يزورون متجراً لطلب الخوة. ومع ما يحمله هذا التشبيه من قساوة، وربما تشنيع إسرائيلي داخلي انتقامي من سياسة نتنياهو، إلا أنه يبرز حقيقة الحضور والإصرار الأميركيين على متابعة خطة يتبناها ترمب ويصر على قيادة عملية فرضها بحيث لا تقف مفاعيلها عند حدود تطويع الحكومة الإسرائيلية في خدمتها وتبنيها، ولا في منع التدخلات السلبية الطارئة من جانب هؤلاء الذين راهنوا على جعل غزة رأس حربة في منازلة الحضور الأميركي الإقليمي، فتسببوا بتدميرها وإيقاع المجازر في صفوف سكانها.
ولبنان في هذا المعنى هو الأقرب والمعني الأول بالعملية التي يقودها الأميركيون إلى الجنوب من حدوده. فعندما تتبنى الولايات المتحدة قيام غزة من دون سلاح "حماس"، فهي تكرر حرفياً ما قالته في شأن حصر السلاح في لبنان بيد السلطة الشرعية ونزعه من "حزب الله" حليف الحركة الفلسطينية في المحور الذي تقوده إيران، وهي إذا كانت لا تستعجل تسليم القطاع إلى إدارة السلطة الفلسطينية، لأنها تتردد في الاعتراف بهذه السلطة وتقترب من موقف الحكومة الإسرائيلية منها، فإنها تراهن، على العكس من ذلك، على سلطة لبنانية قائمة وشرعية في تولي مسؤولية الاستحواذ الكامل على القرارات السيادية وفي مقدمها حصر السلاح. وهو الأمر الذي يواصل "حزب الله" رفضه معلناً أنه يستعيد بناء قواه من دون معرفة الهدف الحقيقي لهذه الاستعادة، أو جدواها في ظروف ميزان القوى الفعلي، بعد موافقة "حماس" على وقف الحرب، وحاجة لبنان إلى استعادة قراره الوطني ونهوضه الطبيعي عبر مؤسساته الشرعية.
ويجدر النظر إلى ما نصت عليه خطة ترمب في غزة لمحاولة فهم ما يمكن أن ينتظره لبنان من احتمالات، خصوصاً إذا استمرت حال المراوحة الراهنة بين خطابين، رسمي يقول إن لبنان ينفذ ما يجب عليه بموجب القرار 1701 والاتفاق بين "حزب الله" وإسرائيل حول وقف الأعمال العدائية، وآخر يتبناه الحزب المدعوم من إيران، يهاجم الدولة ويحملها مسؤولية عدم مواجهة العدوان، ويكرر استعادته لقواه من دون أن يطلق رصاصة واحدة ضد الاعتداءات الإسرائيلية اليومية.
في واشنطن، يتحدثون عن ضرورة حسم وضعية "حزب الله" ليعود لبنان بلداً طبيعياً. المبعوث توم براك لوح باحتمالات حرب إسرائيلية حاسمة ضد الحزب، والسفير الأميركي الجديد لدى بيروت، وهو لبناني الأصل، يتحدث عن قرار حاسم اتخذه ترمب، ولا يحتمل التلاعب أو التأجيل، بإعادة لبنان إلى مسيرة القانون والازدهار، فكيف سيجري ذلك في ظروف المراوحة اللبنانية؟ هل ببند يشبه البند التاسع في اتفاق غزة؟ أم بأعجوبة مجوسية يحمل هداياها قادمون من الشرق الإيراني؟
دعيت إيران إلى حضور قمة شرم الشيخ، ولم تحضر لتشهد التغير الكبير الحاصل في إدارة منطقة عدتها منصة لخوض المعارك مع "الكيان الصهيوني" ورعاته الأميركيين.
لم تحضر إيران لكنها قرأت أن غزة ستخضع بموجب البند التاسع من خطة الرئيس الأميركي لحكم انتقالي يضم لجنة إدارية فلسطينية، تنظم شؤون الخدمات العامة ويشرف عليها "مجلس سلام" دولي يترأسه ترمب، يتولى وضع الإطار العام لخطة إعادة إعمار القطاع ومصادر تمويلها، وذلك بانتظار استكمال السلطة الوطنية تنفيذ برنامجها الإصلاحي استناداً إلى ما وعدت به وما ورد في خطة صفقة القرن (عام 2020) والمشروع السعودي - الفرنسي، ثم استعادتها السيطرة على غزة بصورة فعلية.
يكفي هذا النص للتأمل في ما يمكن أن تؤول إليه الأمور داخل لبنان في حال عجز السلطات الرسمية عن الإيفاء بتعهداتها واستمرار البلاد بالتالي في مسيرة الانهيار والأفق المسدود.
في منطق "حزب الله" المدعوم من إيران لا طريق غير استعادة المشروع الميليشياوي المسلح، وهذا يستتبع قيام إسرائيل بمواجهة هذا المشروع، فيما تتحول الدولة إلى نسخة من "سلطة فلسطينية" تحتاج إعادة تأهيل، ليمكنها بعد ذلك أن تلعب دوراً بموجب بند في اتفاق دولي لاحق في شأن لبنان يشبه البند التاسع في اتفاق غزة.
لقد دار نقاش طويل في إسرائيل حول وجوه الشبه بين غزة ولبنان. هدد مسؤولون إسرائيليون طوال أشهر بتحويل لبنان إلى غزة أاخرى، وجادل إسرائيليون آخرون في أنهم لا يريدون إنجاز اتفاق في القطاع يكرر تجربة إسرائيل مع "حزب الله" في لبنان، بحيث يسمح لها بمواصلة ضرب مواقع "حماس" في حرب لا نهاية لها مماثلة لحربها مع "حزب الله".
وجاءت خاتمة كل تلك النقاشات في اتفاق جعل إدارة غزة في يد مجلس يقوده ترمب، فهل يتجه لبنان في نهاية نفقه إلى حال مشابهة أم أن إرادة استعادة الشرعية على يد القوى اللبنانية الحية ستنتصر وتوفر على البلاد مزيداً من التجارب غير المطمئنة؟
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - الاندبندنت عربية