حتى ثمار اليقطين ودّعته
2020-10-06
 بروين حبيب
بروين حبيب

بين أجنحة الكتب في المعارض العربية، يتميز جناح تتوسط حبات اليقطين العملاقة فيه رفوف الكتب ذات الأغلفة المبهجة، والعناوين القوية، التي لها وقع الزلازل أحيانا. ذاك هو جناح الناشر والصحافي رياض الريس. جناح يشبهه، في سحره الخاص ليس كناشر فقط، بل كصحافي، أو «ورّاق» كما يحب أن يسمي نفسه…

لقد حلّ موسم اليقطين.. يا للصدف العجيبة، وأنا عائدة إلى البيت، فكرت أن أقتني يقطينة وأزين بها البيت قبل أن أحوّلها إلى طبق لذيذ. خطر ببالي «الريّس» مباشرة، فكرت فيه طيلة الطريق، لأفاجأ بخبر وفاته من صديقة عزيزة جاءني صوتها مخنوقا، ومبللا بالدموع.

هل أخبركم كيف انشطر قلبي إلى نصفين؟ كيف هوى قلبي على البلاط فتبعثر مثل يقطينة سقطت من علوٍّ شاهق؟ هل أخبركم عن مقدار حزني لغياب هذا الرّجل؟ أم عن مقدار حبي له وتقديري لشخصه وتاريخه؟ هل أخبركم كيف نختلف مع مثقف ونبقى على تواصل روحي معه؟ نشتاقه ونهاب الاقتراب منه، نتابعه، فنفرح حين يفرح، ونحزن حين يحزن، نبقى على مرمى رؤيته من بعيد، بدون إرباكه بحضورنا.

هكذا كانت مشاعري نحو ناشري الصحافي والكاتب رياض الريس. كان بمرتبة صديق، لكن مع بعض المسافات، كان أيضا بمرتبة معلّم، كوني لم أكف أبدا من التّعلم منه. علاقتي به فيها الكثير من الاحترام والهيبة، فقد كان عملاقا في نظري حتى حين يطلق نكته وسخريته اللاذعة على طريقته، كان بودي أن أكون أقرب، لكن مسافات طويلة من التاريخ والتجارب والجغرافيا فصلتنا. فظلّ متربّعا على قلبي كمثل أعلى، في تقديسه للحرية، وإخلاصه لنفسه، ومبادئه، وقرائه.

مساء السبت، في السادس والعشرين من سبتمبر/أيلول، تشكّل الحزن سريعا وكثيفا مثل عاصفة مفاجئة، والتهمني دفعة واحدة. وكمن ضاع في أدغال وسط العاصفة، لم أعرف ماذا عليّ أن أفعل. هل عشتم تجربة العجز عن الكتابة عن شخص تحبونه كثيرا؟ هذا ما حدث لي فجأة، أمسكت هاتفي لأكتب كلمة رثاء، فغادرتني الكلمات، أصبت بصدمة مسح لامست دماغي، فإذا بي أجهل اللغة والكلمات.

ماذا سأكتب؟

لا شيء يخطر ببالي، فقد كان أكبر من أي كلام يقال عنه، تعدّد رياض الريّس في الصور المرسومة له، سواء من طرف من يحبه أو من لا يحبه. لكن الجميع متفق على احترامه. مخيف؟ أي نعم كلمته مخيفة، أرعبت كثيرين، لكنّه رجل ينبض بالطيبة، بسيط ومتواضع.

أحدهم قال لي عنه ذات يوم أنه ليس مخيفا، بل يهابه الجميع لأنه لا يخاف، وليس متمردا، بل صادقا مع نفسه، وليس مغامرا، بل عاشقا للحرية. لم ينتمِ لحزب سياسي، ولا لميليشيا على رأيه، ولا لفريق رياضي، ولا لفريق فوتبول، هو فرد يحمل قلما.

هكذا يقدّم نفسه، مضيفا أنه «قارئ محترف» يقرأ الجرائد، الكثير من السياسة، ويقرأ الكتب. مارس النشر لأنه شغفه، فعل ذلك مستمتعا، لا أحد موّله، ولا هو طلب من أحدهم تمويله، يروي حياته بهذه البساطة المبهرة، فلا نجد أمامها كلمة نقولها. أغلق أفواهنا جميعا، حتى لا نخترع له الإضافات التي يحب عشاق التأبينيات إضافتها.

خريج اقتصاد في إحدى الجامعات البريطانية، لكنه أخفق في أن يكون صحافي إقتصاد، يقول إنه «حيوان سياسة» يستعمل مصطلحات صادمة وطريفة تخصه، ويعترف بفشله، كما يجب أن يفعل أي شخص يصبح قدوة في ما بعد لأجيال لا تنتهي. يقول إنه مؤمن بالقومية العربية، وأحتار وأنا أستعيد طريقته في طرح قضايا العرب، وتحليلاته كيف أنّه دقيق مثل عباقرة الفكر الغربي.

لا شيء فيه «عربي « كما عهدنا العروبة، فهو إنسان مستقيم في تعاطيه مع من حوله. في خلال لقاءات عدة جمعتنا، من بينها لقائي المتلفز معه، أبهرني بصراحته التي لا حدود لها، فلا شيء موارب عنده، ولا منطقة وسطى لكسب الجميع، ثمة خسائر أمام كل خياراتنا، وهو رجل لم تخفه الخسارات أبدا. عاش شغفه حتى الثمالة. حديثه لا يُمَلّ. سيل من الحكايات والحكم ووجهات النظر العميقة، تنساب من بين شفتيه، متبسم وضاحك. لا مجال لاستحضار صورته إلاّ وضحكته مرافقة لملامحه.

النشر العربي

في احتفاء خاص بصدور كتابي «أعطيت المرآة ظهري» بالغ في كرمه، دعا من أحبهم، وأحاطني بكثير من الفرح. وأكّد الجميع «هذا هو رياض».. نعم نحن نحب أن نذكر محاسن موتانا، لكن تحضرني عبارته الشهيرة التي أخذها عن الإنكليز «إن كل كِتاب يحرق يضيء العالم» وهو في موته كأنّما ولد من جديد، فانبعث منه كل هذا النور، انبعث تاريخه، وبرزت مؤلفاته، وأقبل كثيرون على مشاهدة برامج حلّ ضيفا عليها. اسم رياض الريس قديم في ذاكرتي، من أيام «النّاقد» ونحن نتلقفها بشغف في البحرين، كانت مرجعا بالنسبة لنا كطلبة، وحتى حين غابت وعادت بثوب خفيف مختلف، تحت عنوان «النقّاد» تلقفناها بحب، رغم أنها لا تحمل البحث العلمي والمقال الرّصين، لكن كان عندها كاركتير، وكانت ثرية بمواضيع النميمة، ومنوعة ومغرية وجميلة، لم تخرج أبدا عن إطارها الثقافي الثقيل.

تركت مجلّة النّاقد أثرا كبيرا في تكويني، ولعلّ من أجمل مفاجآت القدر لي أني بعدها بسنوات سألتقي صاحبها، وسيكون أول شخص من غير الأهل والأقارب سيلفظ اسمي بالطريقة الصحيحة «perveen ». وسأخبره بما فعلت بي «النّاقد»، وسيخبرني الكثير عن مشواره نحوها. مفتخرا بها وبالعدد الكبير من الكُتّاب الذين اكشتفتْهم، وقدمتْهم، حوالي 1200 كاتب، و40 رساما، بعض هؤلاء الرسامين سألتقيهم خلال مشواري الإعلامي، وأدرك أن لا أحد كان سيمنحهم فرصتهم الثمينة غير رجل نبيل مثل رياض الريس.

منذ سنوات أصبح كل شيء يمضي في انحدار، رغم تزاحم الفضائيات والمنابر الإعلامية، لقد قال لي في لقاء منذ سنوات «الصحافة انتهت» وشرح بإسهاب أسباب ذلك، وها قد غادر بعد أن بلغنا هذه المرحلة، حيث تقف الصحافة الجادّة على شفا حفرة من الهاوية. أدرك بحاسته القوية أن الحريات في تقلص. ومع هذا لا شيء هزمه غير المرض، ظلّ «ريّس» نفسه، لا رئيس عليه، ظل «النّاقد» الذي لا تهمه لائمة لائم. قال ما يريد ورحل.

تابعتُ موكب سفره الأخير عبر مقطع فيديو تقاسمه الأصدقاء وهو يودّع شارع الحمرا، متجها إلى مقبرة قصقص، فبكيت، هو الذي كره هذا الانفجار التكنولوجي، لم يجد محبوه سواه لتوديعه من خلاله. لكأنّه جاب العالم كلّه في تلك اللحظات القليلة، تماما كما كانت حياته ذات يوم، فعانقه الأحرار بعيونهم في كل مكان مودعين.

اختطفه فيروس كورونا، الذي شلّ حركتنا طيلة هذا العام، كما اختطف كثيرين. طعنة في العمق. لقد صدّقنا أن هذا الشرير يقف أمام أنوفنا في تحدٍّ وقح. فكيف نواجهه؟

بعد نوبة بكاء حادّة، تذكّرت يقطينات رياض الريّس، فابتسمت وأنا أشكره لأنه ترك لنا حكمة علاجية قوية لمقاومة كورونا. لقد كان رحمه الله عاشقا للمأكولات الفاخرة، وربما اليقطينة بالنسبة له رمز للتفرّد، وإثارة انتباه زوار المعارض، وربما لها معنى آخر مرتبط بقيمتها الغذائية، لكني متأكدة أنها تغلغلت بين المكونات الجمالية لذوقه من خلال ثقافته التي اكتسبها من الأدب والثقافة الإنكليزيين. إذ يحلُّ الخريف فيحل موسم ثمرة اليقطين، وتحل المواسم الأدبية، واحتفالات هلاوين، والأفراح الخريفية التي تشهد قطاف الكثير من الثمار.

يحتفل العالم بيوم اليقطين يومين قبل مولده في الثامن والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول، وهذه صدفة أخرى طريفة، ستظلّ عالقة في ذهني، تذكرني بروحه الحلوة، وغنى حضوره، وقوّة ذخائره لمواجهة قسوة الشتاء المقبل…

وحتى إن نسينا تلك التواريخ التي تختصر محطات حياته، ستذكرنا ثمار اليقطين بتربعه على عرش معارض الكتاب، ولسوف تذكرنا بيوم غيابه، فقد أبت إلاّ أن تودعه مثلما ودّعه كتّاب ومثقفون وفنانون بقلوب مفجوعة متألمة من كل أصقاع العالم.

وداعا أيها الرجل الحر، إلى الملتقى.

 

  • شاعرة وإعلامية بحرينية


مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي