لا تثق أبدا في ما يكتب من نقد جيّدا كان أم سيئا

2021-03-31

النقاد يتجنبون الأدباء الجدد (لوحة للفنان أحمد فريد)أبو بكر العيادي*


النقد، كما هو معروف، شكل من أشكال الكتابة، يستند إلى نص آخر، محاولا الإلمام بمكوناته، وإبراز نقاط القوة والضعف فيه، وإجلاء القيم التي يهدف إليها. ولكن من ينهض به؟ الصحافيون أم الكتاب أم الأكاديميون؟

منذ مطلع القرن الماضي كان الفرنسي ألبير تيبودي (1874-1936) قد قسّم النقد إلى ثلاثة أصناف: نقد عامة الناس ونقد المحترفين ونقد الفنانين.

ثلاثة عناصر
حسب تيبودي فإن النقد الأول هو النقد العفويّ الصادر عن جمهور القراء، أو الجانب المستنير منهم، أولئك الذين يؤوّلون الأثر فور ظهوره، ويصدرون فيه حكما عامّا يقيّمونه من خلاله دون الاستناد إلى جهاز معرفيّ. والثاني هو النقد المحترف الذي ينهض به من اتخذوا الكتاب صنعة، وعملوا على إقامة نوع من المجتمع يضم كتب الأزمنة والأمكنة جميعا. والثالث هو نقد الفنانين الذي يقوم به الكتاب أنفسهم، حين يفكرون في أدبهم أو يتناولون تجارب زملائهم بأدوات مخصوصة.

النقد العفوي زمنه محدود، وموقفه من الأثر كموقف العامة من أغنية أو مسرحية، غالبا ما يتراوح بين التحمس والنفور، فما هو في الواقع سوى تعبير عن وجهة نظر تستند إلى الذائقة والموضة وعادات القراءة، يحاول كل طرف أن يدفع مَنْ حولَه إلى تبنّيها، ولذلك فهو متعدّد ومتناقض وتيبودي يعتقد أن هذا النوع من نشر الآراء على طريقة الإشاعة هو مهد النقد، لأنه يساهم في جعل الأثر يدور على أكثر من لسان، ويتجدد بالنقاش والجدل.

والنقد الثاني، أي المحترف، هو الذي ينهض به الصحافيون، لعرض الكتب وإبداء الرأي فيها، وهو نقد عادة ما يتوجه إلى القراء أكثر ممّا يتوجه إلى الكتّاب، وهو أيضا نقد عارض، يزول بزوال لحظته، إذ غالبا ما يكون سريعا بسيطا سطحيا، ميّالا إلى انتقاء عناوين من جملة ما يصدر، وعادة ما يخطئ التقييم فيحتفي بالغثّ ويُهمل السمين.

أما النقد الثالث فهو نقد الفنانين، أي نقد الكتّابِ أنفسِهم بعضَهم بعضا، فالكتاب قرّاء شرهون، يتحمسون لهذا الكتاب أو ذلك، وينفذون إلى عمقه، فيعبرون عن جدّته في أدبية سامية، أي يبدعون نصّا على نصّ. ولكنهم يكونون أقرب إلى الموضوعية حين يتعلق الأمر بالراحلين، لأن موقفهم من الأحياء قد يشوبه حسد وغيرة أو محاباة وممالأة، وقد يُسقطون تصوّرَهم الخاصّ للعمل الإبداعي على نصوص غيرهم، فيشنّعونها إن جرت مجرى غير الذي ساروا عليه. ولذلك فهو في عمومه نقد متحيّز، سلبا أو إيجابا.

هذه النظرة إلى النقد لم تتغير كثيرا بتغير الأزمنة، فالعناصر الثلاثة لا تزال قائمة، وإن أضيف إليها عنصر آخر هو النقد الأكاديمي. ولكن عندما تثار مسألة غياب النقد عندنا، فأي العناصر يتّهم بالتقصير؟

إن كان المقصود بالنقد هو ما يكتب في الصحافة، فهو أقرب إلى العروض السريعة للتعريف بآخر ما صدر، فإذا ما تجاوز ذلك كان رهين ثقافة صاحبه ومدى قدرته على معرفة خصائص الجنس الذي ينتمي إليه الأثر المنقود ومدارسه واتّجاهاته، والوسائل التي ينبغي أن يحوزها لولوج النصّ، فإما أن ينصفه وإما يقول فيه كلاما مُعادا يصلح لكل العناوين. والتقصير يكون على هذا المستوى، ويكون أيضا باضطرار الصحافي إلى الانتقاء، وغالبا ما ينحاز إلى الأسماء المعروفة أو دور النشر الكبرى.

وإن كان المقصود هو النقد الأكاديمي، فهذا النقد زمنه بطيء، لا يُقبِل إلا على التجارب الناضجة المكتملة والأسماء المكرَّسة، واهتمامه لا يقتصر على الأدب الحديث وحده، بل غالبا ما يرتدّ إلى العصور القديمة، فيحتفي بالأموات أكثر من احتفائه بالأحياء. وأُفقه هو الفضاء الأكاديمي نفسه، طلبة ومدرّسين، حتى الفضاءات التي ينشر فيها أعماله خاصّةٌ، لا تتعدى أحيانا رحاب الجامعة.

نقول ذلك رغم أنّ جانبا من الأكاديميين حاول كسر ذلك الطوق بالنزول إلى الساحة والإسهام في إبداء الرأي في ما يُنشر، عبر مقالات ودراسات في الصحف والمجلات، بعضها في متناول الجميع، وبعضها الآخر عصيّ على الفهم، حتى لنحسّ أن صاحبه يريد استعراض معرفته والتعريف بنفسه أكثر ممّا يعرّف بالكاتب وأثره. إضافة إلى الكتاب الذين يكتبون أحيانا عن بعضهم بعضا، بنجاحات متفاوتة، إمّا لتحليل نصّ وتلمّس وجوه الجّدة فيه، أو لتعرية هَناتِه ومساويه، وإمّا لسدّ الشغور الذي تركه النقاد المتمرّسون.

لا تثق في النقد

عندما تثار مسألة أخرى هي قصور النقد بأصنافه عن تناول كتابات الوجوه الجديدة، فالإجابة التي تتبادر إلى الذهن في أوّل وهلة هي أن ذلك قدر الجميع، يستوي فيه المتقدّمون والمتأخرون. ولكن لو أمعنّا النظر لألفينا أن الجدد أوفر حظّا من سابقيهم، فقد ظهروا مع ظهور الثورة الرقمية التي طورت الطباعة، وسهّلت التواصل، ووفّرت فضاءات للنشر غير مسبوقة، سواء على الطريقة التقليدية، أي باللجوء إلى دور النشر الورقي التي تكاثرت وتناسلت في كل مكان، أو على الطريقة الجديدة، في المواقع الاجتماعية.

ومن ثَمّ فإن نصوصهم، حتى المتواضع منها، يلقى من التداول ما لا تلقاه نصوص كتّاب معروفين، ولكنهم لا يقنعون بتلك الفضاءات، بل يطمعون في نقد يكتبه نقّاد معروفون، وهذا أمر مشروع، غير أنّ ما يوحّدهم تقريبا هو ضيق صدورهم بما لا يجد هوى في نفوسهم.

الأدباء الجدد أغلبهم لا يقبَلون من ينبّههم إلى أخطائهم أو ينقد نصوصهم، ولا يرغبون إلا في مديح يُكال لهم

بكلام آخر، هم لا يقبلون من يكشف عن ضحالة نصوصهم أو ينبّههم إلى أخطائهم، ولا يرغبون إلا في مديح يُكال لهم، على طريقة ما نراه في المواقع الاجتماعية، حيث كل المحاولات “باذخة”، وكلّ كتبتها “مبدعون كبار” تسند إليهم معلقات الشرف والتكريم والميداليات وما إلى ذلك من هذه البدع التي وضعها التافهون للتافهين.

ولمّا كان أغلبهم ينتمي إلى مجموعات أشبه بالنِّحل، تنصر بعضها بعضا، فإنهم يقابلون كلّ من ينتقد محاولاتهم بالتنديد والتهديد، ويَصِمون من “يَجْتَرِئُ” عليهم بما ليس فيه. وقد قرأنا أنّ من النقاد من صار يأبى الاقتراب منهم مخافةَ التعرّض إلى وابل من الشتائم والتهديد، يشنّونه عليه بالتناوب عبر الفيسبوك وسواه.

لا يعني ذلك أن ما يكتبه الجدد خلوٌ من الجدّة والطرافة والتميّز، فقد وقفنا على تجارب في الشعر والقصة والرواية تبشّر بكل خير، وإن تغاضى عنها النقاد للأسباب التي أسلفنا ذكرها، وليست وحدها في هذه الحالة على أيّ حال، فالخير في مواصلة حفر مجراها بثبات، والاستفادة من تجارب الآخرين لتجاوز عثراتها، وعدم القناعة بمديح مضلّل كالذي نراه على صفحات فيسبوك.

ولئن كان من حق أصحابها أن يطمحوا إلى اعتراف من هذا الناقد أو ذاك، كي يزدادوا إحساسا بأنها رسّخت أقدامهم، فإنه ومن واجبهم أولا وأخيرا ألا يرهنوا مسيرتهم للنقد، لأن النقد لا يقدّم دروسا في الإبداع، ولم نقرأ أن كاتبا ضعيف الموهبة تطور فجأة بمجرد أن أسعفه أحد النقاد بمقالة أو دراسة.

يقول الأيرلندي كولوم ماكين، في كتابه “رسائل إلى كاتب شاب”، “لا تثق أبدا في ما يكتب من نقد، جيّدا كان أم سيئا”، لكونه قد يحبط العزيمة ويصدّ عن الكتابة، أو يوحي بعبقرية كاذبة توهم المبدع الشّابّ بأنه لامس ذروة المجد، فيردّد صبحا وعشية أن “ليس في الإمكان أبدع ممّا كان”.


*كاتب تونسي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي