الخبز الحافي لمحمد شكري.. تخييل الهامش والعنف

2021-03-09

محمد شكري

ماسيمو ريزانطي

ترجمة وتقديم عبد المنعم الشنتوف

يقترح الأكاديمي والكاتب والمترجم الإيطالي ماسيمو ريزانطي في هذا النص الذي نقدم ترجمته العربية، قراءة تتسم بتميزها لرواية «الخبز الحافي» للكاتب المغربي الراحل محمد شكري. يتعلق الأمر برؤية تقيم الوصل بين كتابة «الخبز الحافي» ومتخيل الهامش وما يستتبعه من عنف واحتجاج على القهر والظلم.

عمل الكاتب أستاذا للأدب الإيطالي في جامعة طوكيو، ثم أستاذا في جامعة طرينطي شمال إيطاليا، حيث يشرف على حلقة الدراسات الدولية في خصوص الرواية. شارك الكاتب في الفترة ما بين 1992 و1997 في حلقة دراسات الرواية الأوروبية في باريس، التي كان يشرف عليها الروائي الشهير ميلان كونديرا.

النص

ما الذي يعنيه في الوقت الراهن أن تكون كاتبا هامشيا؟ يمكن القول والحالة هذه أن كل كاتب كبير هامشي بالضرورة.

لم يعد للأدب في أوروبا والغرب أي منزلة وهي حقيقة يعترف بها الجميع. لم يعد له أي سلطة روحية وليس ثمة من يعترض أو يندد بذلك. كفّ الأدب منذ ثلاثة عقود عن مشاطرة من يعيشون في الهامش حياتهم.

وكان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر قد ابتدع مفهوما للتعبير عن ذلك وهو الالتزام. هل ثمة بعد من يتذكر جان جينيه، الذي التزم في مسرحيته «الستائر» موقفا عنيفا حيال الاستعمار الفرنسي، ومن أجل استقلال بلد ينتمي إليه عدد كبير من أصدقائه؟

كف الأدب أيضا عن بهاء وملاحة البقاء في الهامش، وكان يصطلح على نعت ذلك بالتعالي الذي كان يجري تطعيمه وتغذيته بحلم غربي يتمثل في الغرابة، أو بتعبير أدق الاستشراق. ويمكن أن نمثل لذلك ببول بولز، الذي استضاف أثناء مقامه في المغرب في سنوات الخمسينيات والستينيات ما تبقى من كتاب أمريكا الشمالية: ترومان كابوط وتينيسي ويليامز وغور فيدال وبريون جيسين، وعدد كبير من شعراء وكتاب جيل البيتز: ألين غينسبيرغ ووليام بوروز وجاك كيرواك وبيتر أورلوفسكي وغريغوري كورسو.

كان الكاتب يعتقد في تلك المرحلة بوجود هوامش في العالم يمكن أن يمارس فيها حربه ضده. كان للأمر تعلق بحرب ضد الغرب وهرب منه. وقد انصرمت هذه المرحلة. مات جينيه عام 1986 ووري جثمانه في مدينة العرائش شمال المغرب، فيما توفي بول بولز عام 1999 في طنجة.

تخلى الأدب أيضا عن اختيار ثالث، أكثر ثراء وعمقا من الناحية التاريخية، ويتحدد في أن يتمثل نفسه محصلة تأثيرات متعددة مستقاة عبر التاريخ. يبدو غريبا في سياق العولمة الاقتصادية، أن يصبح الأدب إقليميا وجهويا، وأن يتخلى عما كان يدعوه سابقا ببعده الكوني الكوزموبوليتي.

لم يعد ثمة من استثناء غير خوان غويتسولو، الذي كان يقيم بين طنجة ومراكش، كي يشهد على قوة وثراء شجرة الأدب الأوروبي، التي لا يسع اعتبار جذورها يونانية أو إسبانية أو إيطالية أو فرنسية فحسب، وإنما عربية أيضا.

لم يكن من قبيل الصدفة أن يعود إليه الفضل في اكتشافي أعمال الكاتب المغربي محمد شكري. وقد أدركت في هذا السياق أهمية الحوار بين كاتب غربي لا يهاب الوجود والحضور في هوامش العالم، وكاتب مغربي لم يكن تهميشه اختيارا، وإنما محصلة شرط مادي كان الأدب الخلاص الوحيد منه. ثمة أيضا في السياق ذاته أن إمكانية انبعاث تقليد حديث للأدب الأوروبي والغربي يبقى مرهونا بهذا الحوار بين هامشين بمعزل عن نقاط تقاطع تاريخ الأدب.

الفقر يعلو على كل القوانين والشرائع

ولد محمد شكري عام 1935 في قرية بني شيكر الواقعة في منطقة الريف شمال المغرب. وقد وصف مرحلتي طفولته ومراهقته في عمله السير ذاتي الأول «الخبز الحافي». كانت الأسرة تعاني من عوز شديد، في ما كان الأب رجلا عنيفا يضرب زوجته وابناءه. وقد حدث في واحدة من نوبات غضبه أن قتل عبد القادر الأخ الأصغر لمحمد، ولَم يتعرض للمتابعة بسبب ذلك.

وبسبب المجاعة التي ضربت الريف إبان الحرب العالمية الثانية اضطرت الأسرة للرحيل الى طنجة ثم تطوان. ومنذ أن أصبح في الحادية عشرة من عمره، انضم محمد شكري الى أطفال المزابل في قاع المدينة، وليصبح منذ ذلك الحين بدون مأوى.

وقد خبر في غمرة ذلك الجوع والعوز والكحول والسرقة والتهريب والمخدرات والدعارة. كان ينام في المقابر، وأحيانا إلى جوار قبر أخيه الأصغر. وهو المكان الأكثر أمانا من التعرض للاغتصاب.

وحين كان يحدث أن يجد عملا كنادل في المقهى، فإنه يكون مضطرا إلى التخلي عن راتبه لوالده، الذي لم يتوقف منذ خروجه من السجن بعد هروبه من الجندية عن استغلاله وضربه. وبعد عودته إلى طنجة عقب إقامة قصيرة في وهران، وقطيعة نهائية مع أسرته في تطوان، ألفى نفسه داخل مقبرة صحبة صديق: حين يموت أبي سأزور قبره كي أتبول عليه. سيحفزه أحد أصدقائه داخل السجن بتأثير أبيات شعرية لأبي القاسم الشابي على تعلم القراءة.

وفِي عام 1956 وهي السنة التي حصل فيها المغرب على استقلاله، غادر محمد طنجة قاصدا العرائش، كي يلتحق بمدرسة ابتدائية. كان في العشرين ولما يزل أميا. وقد تعلم القراءة والكتابة باللغة العربية، التي تختلف عن الدارجة المحكية واللهجة الأمازيغية. وسيصبح بعد التحاقه بمركز تكوين المعلمين مدرسا في مدينة طنجة.

ترجمت رواية «الخبز الحافي» إلى اللغة الإنكليزية عام 1973 من لدن بول بولز والى الفرنسية عام 1980 من لدن الطاهر بن جلون. أصبح بتأثير ذلك عملا ذَا انتشار عالمي. سوف يصدر الكتاب بعد سنتين من ذلك التاريخ باللغة العربية، لكن سرعان ما سوف يجري حظره إلى حدود سنة 2000. وفِي عام 2008 وأثناء المعرض الدولي للكتاب في القاهرة جرت مصادرة كل النسخ المعروضة من الرواية من لدن السلطات. وفِي الحقيقة فإن كلمة أدب باللغة العربية تحيل على السلوك والذوق الحسن. ويستلزم ذلك أن السلطات الثقافية والسياسية العربية كانت على صواب في اعتقادها بأنه لا يحق لمحمد شكري أن يشكل جزءا من هذه الجماعة الواسعة من الكتّاب، الذين يكتبون منذ قرون عديدة بلغة القرآن.

يصف الكاتب في هذا العمل السير ذاتي، الذي تدور أحداثه في مغرب الأربعينيات والخمسينيات من القرن الفارط، وبأسلوب شطاري ولغة عارية مغامرات وتحولات طفل من أطفال الشوارع، كان أبوه قاتلا. وقد خلف صدمة في المغرب وباقي البلدان العربية. وهذا صحيح؛ إذ لم يسبق لأي كاتب قبل محمد شكري أن كتب باللغة العربية وبصراحة وحرية منقطعتي النظير عن دعارة الأطفال والمثلية الجنسية، والبيدوفيليا، وتعاطي المخدرات والكحول، وشخوص لا جذور ولا أسر لها. ولَم يجرؤ أي كاتب قبله على توظيف الشتائم المألوفة التي يطلقها الرجال في حق النساء، ولَم يعمد أحد قبله إلى التعبير عن الكراهية وغياب أدنى شعور بالتعاطف حيال أب مستبد، مدمن على الكحول وقاتل في الآن نفسه.

 

كان محمد شكري قد شدد مرارا على ما مؤداه، أن ذاكرتين تتعايشان داخله. ذاكرة طفل أمي، وذاكرة رجل بالغ تعلم القراءة والكتابة في سن العشرين.

ثمة ما هو أقوى من ذلك في هذا العمل. ذاك أن محمد شكري وضع بؤس وعوز محمد فوق كل الشرائع والقوانين، بمعنى أنه نزع عنه كل غرابة وإغراء. وعوض أن يعاش هذا البؤس باعتباره شرطا أو ظرفا ينبغي الخضوع له بصبر وتواضع، فإنه يقدم في الرواية بوصفه فسادا، أو ارتشاء يحض على القسوة والعنف ويتحتم التمرد ضده بكل الوسائل. دمّر شكري بهذا الصنيع الرؤية الغنائية الغربية في خصوص من يشبهون محمد في المغرب. لقد أخبرنا محمد شكري قبل أن يكتب إدوارد سعيد «الاستشراق» أنه ليس ثمة من غموض أو سحر في الفقر والأمية، والافتقار إلى الأسرة والعمل، والجنس بثمن بخس، وهذه الحرب اليومية التي تمثلها عيشة الفقراء.

لقد وضع حدا في آن للرؤية الزاهية واللطيفة للغرب حيال الشرق وللشرق حيال الغرب. كيف تأتى له ذاك؟

سوف يبدو الجواب أشبه بالمفارقة؛ إذ أفلح في ذلك بفضل الغرب والشرق في آن، أو بتعبير أدق بفضل رؤيته الكوزموبوليتية لهذين التقليدين الأدبيين، وفكرته عن الحداثة التي تتعالى على التحديد الزمني.

ذاكرتان

كان محمد شكري قد شدد مرارا على ما مؤداه، أن ذاكرتين تتعايشان داخله. ذاكرة طفل أمي، وذاكرة رجل بالغ تعلم القراءة والكتابة في سن العشرين. ولن يكون في مقدورنا الإحاطة بأصالة إبداع محمد شكري، بدون أن نأخذ بعين الاعتبار تقاطع هاتين الذاكرتين، الذي أتاح له فرصة أن يكون أحد الكتّاب القلائل القادرين على الدفاع عن هؤلاء الذين نسيهم وهمشهم التاريخ الرسمي، وبمعزل عن فرض خطاب سياسي أو سلوكي: أنا لا أكتب عن السياسة أو الدين. والعنف النابع من ذاكرة الطفل الأمي حاضر بقوة عند الرجل البالغ، إلى درجة لا يعود فيها الكاتب بحاجة إلى تقنيات وأساليب الرواية الواقعية التي تهتم بامتياز بفضح أشكال ومظاهر الظلم الاجتماعي.

وهو ليس بحاجة أيضا لاستعمال ضمير الغائب أثناء السرد أو تفصيل الحديث في سياق، أو سيكولوجية الشخصيات. وهو ليس بحاجة إلى تشكيل وبناء نقلات بين المشاهد. وكل مشهد بالاحتكام إلى تركيب مختزل وشاعري ومتشذر في صيغة مقاطع، يحكمها ضمير المتكلم وتتميز برؤى صغيرة للحدث. وهكذا في مقطع محوري من بداية الرواية وتتعلق بقتل الأب لعبد القادر:

أخي يبكي، يتلوى ألماً، يبكي الخبز. يصغرني. أبكي معه. أراه يمشي إليه. الوحش يمشي إليه. الجنون في عينيه. يداه أخطبوط. لا أحد يقدر أن يمنعه. أستغيث في خيالي. وحش! مجنون! أمنعوه! يلوي اللعين عنقه بعنف. أخي يتلوى. الدم يتدفق من فمه. أهرب خارج بيتنا تاركاً إياه يسكت أمي باللكم والرفس. اختفيت منتظراً نهاية المعركة.

ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار هاتين الذاكرتين حين الحديث عن «الخبز الحافي» بوصفها مجرد سيرة ذاتية بسيطة. يقينا إنها كذلك، رغم ذلك وكما يؤكد مقطع من الرواية يجد فيه محمد نفسه وهو يخوض أولى تجاربه الجنسية مع فتاة، فإن العنف الذي كان عرضة له في طفولته خلخل رؤيته وإدراكه. ويمثل ذلك مفتاحا لفهم الاشتغال المتزامن للذاكرتين والأثر الجمالي الأقوى لعمل محمد شكري ورؤيته النقيضة لما هو غنائي وغياب أي تعاطف أو تسامح حيال الفقر.

ويبدو العنف الذي يوجه ذاكرة الطفل الأمي عصيا على الاقتلاع بحيث يشوش على أي اقتراب من الحياة. بيد أن الذي يروي ويصف طفولته ومراهقته يأتي ذلك بعين شخص بالغ ومثقف، تخلص من مشاعر الأمية. وسيكون بهذا الصنيع قادرا على احتواء هذا العنف البدائي برؤية تتأسس على التخييل والتحكم فيه، بدون أن يفقد وضعه باعتباره بنية أنطولوجية للوجود.

وقد خوّل كل ذلك لهذه السيرة الذاتية أن تكون رواية، وأن يكون محمد شخصية ليست بحاجة لأن تفضح كونها ضحية.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي