بلا قصائد ولا موسيقى

2021-03-07

كيف يحدث الانتصار وبأي فكر؟

عدلي صادق*

بعد أن اضمحل أمام عينيه كل شيء يمكن أن يستحث حماسته أو أن يفتح أمامه بابا للنقد، قال نزار قباني لمجلة “الهلال” المصرية في العام 1994 “أعلنت الطلاق مع شعري السياسي، بعدما اكتشفت -في محاولة جريئة لنقد الذات- أن جميع ما كتبته من شعر سياسي قد ذهب مع الريح.

فالشعر السياسي العربي لا ثبات له ولا ديمومة، لأنه يُغنّى على مسرح عربي شديد الاهتزاز كثير التقلب”. وأردف نزار قائلا “إنه مسرح تنقلب فيه الكوميديا إلى تراجيديا في ثانية واحدة، وتتحول فيه الأفراح إلى جنائز في دقائق معدودات.. والوحدات الفيدرالية والكونفيدرالية تموت قبل أن تنزل من رحم أمها!”.

  لعل الشاعر بعد ارتداده عن الحماسي الناشئ عن جرج الكبرياء؛ طفق يطلب المنحى الآخر العقلاني والغاضب في آن، ويستحث جيلا غاضبا يفلح الآفاق، وينكش التاريخ من جذوره

 هكذا يأسف أحد أهم أعلام الشعر السياسي العربي على زلات قصائده، كأنما ارتكب فعلا مارقا أو مجنونا، علما بأن الرجل لم يفعل شيئا سوى الإلحاح في شعره على أن العيوب الأساسية التي يعاني منها العرب لا تزال كامنة في الشخصية والمجتمع العربييْن.

وعلى مر العقود جعل نزار قضية الحرية مسألة ذات أولوية قصوى، وظل في سنواته الأخيرة يجاهر بضرورة المواجهة والمكاشفة، وتحرر الأدب من النزعة الـ”دون كيشوتية” ومن كل الانفعالات الخطابية الساذجة التي حولت القصائد العربية إلى طواحين هواء لا تمضغ إلا الفراغ واللا شيء!

لعل الشاعر بعد ارتداده عن الحماسي الناشئ عن جرج الكبرياء؛ طفق يطلب المنحى الآخر العقلاني والغاضب في آن، ويستحث جيلا غاضبا يفلح الآفاق، وينكش التاريخ من جذوره، ويمكش الفكر في الأعماق.. جيلا مختلف الملامح لا يغفر الأخطاء ولا يسامح ولا ينحني ولا يعرف النفاق!

معنى ذلك أن الشاعر العربي الذي كان يتعاطى القصيدة السياسية اضطر في لحظات الهزيمة إلى مساعدة الناس على عبور مرحلة الإحباط، فأشعل النار في القصيدة، وتعمد تأجيج الأحلام، لريثما تمر الأيام الصعبة، وهذا ما كان يميز القصائد التعبوية التي أنشدها المطربون والمطربات بعد هزيمة يونيو 1967.

لكن نزار نفسه الذي استأنس بظهور البندقية الفلسطينية في قصيدته التعبوية التي غنتها أم كلثوم للمرة الأولى في ليبيا وأهدتها إلى ياسر عرفات، تحول نزار إلى ما يسمى “القصيدة الحزيرانية” التي تناولت بالنقد المرير كل شيء في الحياة والفكر العربييْن، بما في ذلك “كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة” على نحو ما كتب في قصيدته “هوامش على دفتر النكسة”.

فقد نعى في تلك القصيدة الفكر الذي قاد إلى الهزيمة، مؤكدا على أن “ارتجالنا كلفنا خمسين ألف خيمة جديدة” إذ “بالناي والمزمار.. لا يحدث انتصار!”.

لم يقل لنا الشاعر بعدئذ كيف يحدث الانتصار، وبأي فكر؟ وما قاله كُتاّب كُثر لم يخرج عن مستوى اجترار أفكار قديمة.

فقد كان من بين معاني “الصحوة” التي ظهرت التوغل في الاغتراب عن الحقائق، والإجهاز على ما تبقى من الوحدة الوجدانية للناس، وتوسيع أسواق بيع الأوهام، وتخليق الظهير والمعادل الموضوعي للاستبداد الرسمي من خلال الحزبية الدينية التي تحتقر الثقافة وحقائق التاريخ، وهذا كله هو الذي يجعل مسار التطورات السياسية اليوم يمضي بلا قصائد ولا موسيقى.

فمن يتابع كل الفعاليات العربية، يلحظ الإحباط في ثنايا اللغة، وتمر المناسبات بلا بهجة ويغيب الفخار الذي لطالما اتسم به الاحتشاد العربي إذ تُستعاد أمجاد موهومة أو أسطورية، تؤكد على الحيوية والجاهزية لصد لأعداء. وليس أكثر تعبيرا عن العنفوان، إيقاعا حركيا وقولا شعريا مُصاحبا، من رقصات الدبكة الفلسطينية بأشكالها وأنواعها وأهازيجها.

لقد غاب هذا الإيقاع اليوم، وحل خطاب التشكي ومنطق التهاجي، كأنما الناشئة قد استكثروا الإيقاع الرصين، على واقعهم السياسي المترهل وعلى الممسكين بمقاليد الأمور!

 

  • كاتب وسياسي فلسطيني

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي