شوبنهاور.. الوجه الآخر لفيلسوف التشاؤم

متابعات الامة برس:
2021-02-14

 

القاهرة- رشا أحمد: حياة اجتماعية ونفسية مضطربة شكلت شخصية الفيلسوف الألماني الشهير شوبنهاور (1788-1860)، وأدت دوراً مهماً في النزعة التشاؤمية التي اتسمت بها أفكاره ورؤاه، حتى لقب بـ«فيلسوف التشاؤم»... فصول من هذه الحياة، خاصة مراحل النشأة والتكوين، يكشفها كتاب «شوبنهاور: مقدمة موجزة»، من تأليف أستاذ الفلسفة الباحث الأميركي كريستوفر جاناواي الذي يشرف على ترجمات شوبنهاور إلى الإنجليزية، بالتعاون مع جامعة كمبردج. وتولى ترجمة الكتاب الصادر في القاهرة عن «المركز القومي للترجمة» إلى العربية سعيد توفيق، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة. ولد أرتور شوبنهاور بمدينة دانتسج، وتوفي في فرانكفورت. ويرصد الكتاب أثر هذه النشأة في ملامح وجهه، مشيراً إلى أن كثيراً من الصور الفوتوغرافية التي التقطت له خلال العقد الأخير من حياته يبدو فيها بهيئة غير تقليدية ذا عزيمة وإصرار في تجهم، ولكن الوميض الذي يشع من عينيه يبدو معبراً عن شخص ما يقظ في حذر صارم. وقد وصفه نيتشه قائلاً: «إن الطاقة الإبداعية المتمردة لرجل في العشرينيات من عمره هي التي أنتجت كتابه العمدة (العالم إرادة وتمثل)».

علاقات مضطربة

يشدد جاناواي على أن الروح الاستقلالية هي أكثر السمات المميزة لطبيعة شوبنهاور، فهو يكتب بلا خوف، وبقليل من الاحترام للسلطة، ويمقت الخضوع للتقاليد السائدة التي وجدها في المؤسسة الأكاديمية الألمانية، لكن وراء هذا تكمن حقيقة لها دلالتها، وهي أنه كان أيضاً مستقلاً مادياً. فحينما أصبح بالغاً عام 1809، ورث ثروة كانت مع قليل من المهارة في إدارة الأعمال كافية لتؤمن معاشه بقية حياته. وكان أبوه يعد واحداً من أكثر رجال الأعمال ثراء في دانتسج، غير أنه في أثناء رحلة والديه لبريطانيا، تم إلحاقه بمدرسة داخلية في ويمبلدون، وهي ذات رؤية دينية ونظام تعليمي ضيق الأفق، وهو ما كان له تأثير سلبي عليه دام بقية حياته. إن هذه الفترة تنبئ بالكثير عن شخصية شوبنهاور وتنشئته، إذ كان تلميذاً غاضباً مشاكساً لا ينصاع للممارسات السخيفة التي كانت تحيط به، وقد بدا منعزلاً تماماً ينظر بشيء من الاستخفاف إلى ما حوله.

ويذكر المؤلف أن أباه كان رجلاً قلقاً صارماً مهيباً يؤمل كثيراً في ابنه، أما الأم فهي يوحنا شوبنهاور، من عائلة تجارية ناجحة، لكنها مختلفة تماماً عن زوجها، فقد كانت شخصية اجتماعية مفعمة بالحياة، لها مواهب أدبية بلغت ذروتها لتصبح «كاتبة» تؤلف روايات رومانسية على نحو جعلها أكثر شهرة في أثناء حياتها من ابنها. وكان لها نفوذ مؤثر في حياته، ولكن العلاقة بينهما لم تكن حميمية أبداً. وفيما يتعلق بزواجها، كتبت هي نفسها قائلة إنها رأت أنه لا حاجة بها لأن تتظاهر بالحب المشبوب لزوجها، مضيفة أنه هو نفسه لم يكن يتوقع منها ذلك. وبعد أن توفي الأب، راحت يوحنا المتحررة عقلياً تواصل مشروعها المهني الخاص، وانتقلت إلى فيمار، حيث أسست صالوناً ثقافياً كان يفد إليه كثير من الشخصيات البارزة. ولقد استفاد شوبنهاور من خلال الصلات التي أقامها مع رواد الصالون، خاصة أديب ألمانيا الأشهر جوته، والمستشرق فريدريك ماير الذي أثار لديه اهتماماً بالفكر الهندي لازمه طيلة حياته، غير أن علاقته بأمه أصبحت شديدة الاضطراب، فطردته إلى الأبد، ولم تره بعد ذلك.

الألم والسأم

تجلت وجهة شوبنهاور الحقيقية في الجزء الأول من «العالم إرادة وتمثل» الذي أنجزه في دريسدن، ونشره عام 1818، رغم أن السنة المدونة هي 1819. يشير المؤلف إلى أن أسلوب البحث الهادئ الرزين الذي سار فيه شوبنهاور على منوال إيمانويل كانط في كتابه السابق «الجذر الرباعي» (1813) لم يكشف عن القوة المحركة لفلسفته، فهو لم يوجه أسئلة تتعلق بالمعاناة والخلاص والأخلاق والفن والنزعة النرجسية والموت ومعنى الحياة؛ تلك التساؤلات التي تشكل عماد فكره وانشغاله الأكبر، حتى أنه بقي في طور تأليف هذا الكتاب ما يزيد على عشر سنوات. وهو بتبنيه فكر كل من أفلاطون وكانط أصبح على قناعة بأن هناك انفصالاً بين الوعي العادي والوضع الأسمى الذي يتمكن فيه العقل البشري من النفاذ فيما وراء مجرد المظاهر إلى معرفة ما هو أكثر حقيقية.

ويوضح جاناواي ذلك، قائلاً إن الفكرة الأساس في كتابه العمدة تتعلق بالإرادة، حيث يقدم لنا شوبنهاور العالم بصفته ذا جانبين: جانب «التمثل»، أي الأسلوب الذي به تُقدم لنا الأشياء ذاتها وكيف «نتمثلها» نحن؛ وجانب الإرادة، أي رغبة الإنسان في السمو فوق ما يتمثله، ليصنع من العالم حقيقة تتجاوز مجرد المظاهر الوجودية المعتادة. بعبارة أخرى، فإن البشرية موزعة بشكل متوازن بين طبيعة كائن حي مدفوع نحو البقاء والتناسل، وعقل خالص يناهض طبيعة ذلك الكائن، ويتوق إلى تأمل أبدي لحقيقة أسمى. ومع أن شوبنهاور ما زال يتصور نوعاً من الخلاص الذي يقوم على التخلي، فإنه يعتقد أن الوجود في صورته العادية يتضمن بالضرورة بؤساً مزدوجاً من الألم والسأم.

تجربة فاشلة

يذكر الكتاب أنه في سنة 1820، تم قبول شوبنهاور محاضراً في جامعة برلين، بعد أن ألقى محاضرة أمام حشد من أعضاء هيئة التدريس، برئاسة فيلسوف ألمانيا الكبير جورج فريدريش هيغل الذي كان أستاذاً للفلسفة بالجامعة. وقام شوبنهاور نفسه على نحو سديد ليحاضر تحت هذا العنوان الفاتن «مجمل الفلسفة: أي نظرية جوهر العالم وجوهر العقل البشري»، ولكنه اختار أن يحاضر في التوقيت ذاته الذي يحاضر فيه هيغل، فحضر مائتان من الطلاب محاضرة الأستاذ الذي كان في قمة مجاله المهني، بينما بقي لشوبنهاور غير المعروف قلة هزيلة من الطلاب. ورغم أن اسمه بقي مدوناً في جدول المحاضرات في السنوات التالية، فإنه لم يعد لتكرار هذه التجربة، وكان هذا هو نهاية ممارسته لمهنة التدريس الجامعي. لقد كان هيغل مثالاً على كل ما يكرهه شوبنهاور في الفلسفة، فقد كان أستاذاً أكاديمياً استفاد من السلطة الرسمية التي ظل فيلسوفنا يزدريها، كما كان هيغل يؤيد الكنيسة والدولة، ولم يستطع شوبنهاور هضم تصوره للدولة بصفتها تمنح «أسلوباً جباراً في الكتابة»، كما أنها مجرد وسيلة ملائمة لحماية الملكية وكبح فرط الأنانية. ورأى شوبنهاور في كتابات هيغل أنها تتسم بتكلف الادعاء والغموض، بل هي مضللة، فالشعار الذي ينبغي وضعه عنواناً للفلسفة الجامعية الهيغلية هو أنها «سمكة حبّار» تضع فوق نفسها سحابة من التعتيم كي لا يرى أي أحد ما كنهها، متخذة تلك المقولة شعاراً لها: غموضي يحصنني! وليس من الصواب القول إن فلسفة شوبنهاور قد قامت على أساس من معارضة هيغل، فالأخير كان بمنأى تماماً عن عقل شوبنهاور، حينما أبدع عمله الفذ «العالم إرادة وتمثل»، ولكن نجاح هيغل المظفر الذي صاحب افتقاد شوبنهاور المستمر للعرفان ترك في نفسه ضغينة لازمته فترة طويلة من حياته المهنية.

الهروب من الكوليرا

يذكر الكتاب أن فترة العشرينيات من القرن التاسع عشر الأقل إنتاجاً في حياة شوبنهاور، فقد سافر إلى إيطاليا، وعاني أثناء ذلك وبعد عودته من مرض خطير ومن اكتئاب، كما ارتبط بعلاقة غرامية مع كارونيه ريشتر، وهي ممثلة استعراضية في المسرح القومي ببرلين.

وفي سنة 1831، وصلت الكوليرا العاصمة الألمانية، وتبين أن هيغل من بين ضحاياها، وغادر شوبنهاور المدينة. وبعد فترة من الحيرة، استقر في فرانكفورت، حيث بدا أنه يواصل هناك حياته الإبداعية التي توزعت بتوازن بين الكتابة والاستجمام، كالذهاب إلى المسرح والأوبرا والتريض والعزف على الفلوت، وتناول العشاء في المطاعم، وقراءة جريدة «التايم» في مكتبة المدينة. وحينئذ، أصبح قادراً على إنتاج مزيد من الأعمال. ففي سنة 1836، نشر كتابه عن «الإرادة في الطبيعة» الذي أعده ليكون داعماً لمذهبه في الإرادة. وفي سنة 1844، تم نشر مجلد ثان من «العالم إرادة وتمثل»، مع طبعة جديدة من المجلد الأول. وكان حكيماً في أنه لم يحاول أن ينسخ العمل الذي أنجزه في فترة الشباب، وبدلاً من ذلك أدخل تنقيحاً جوهرياً على الأصل، وأكسبه مزيداً من الوضوح والإفاضة بما استفاده من تأملات فترة النضج. وقد أعيد نشر الجزأين معاً في طبعة ثالثة صدرت عام 1859، قبيل وفاته. أما آخر ما نشره شوبنهاور من مؤلفات جديدة، فكان كتاباً آخر من جزأين، بعنوان «الحواشي والبواقي»، وهو الكتاب الذي ظهر عام 1851، بعنوانه المثير للتأمل، حيث تتراوح المحتويات بين مقالات فلسفية مطولة ومأثورات عن حكمة الحياة بأسلوب أكثر شعبية، وهي المأثورات التي كثيراً ما كان يتم نشرها منفصلة.

ومن الغريب أن هذا العمل تحديداً وجد ترحيباً في إنجلترا أولاً، وهو ما أدى إلى شهرة شوبنهاور، فأصبح هناك احتياج إلى طبعات جديدة من كتاباته، وأصبح موضوعاً لمقررات في الجامعة الألمانية، وراح يستقبل كثيراً من الزوار وكثيراً من المراسلات، من بينها النص الأوبرالي الكامل «خاتم النيبلونج» الذي أرسله واحد من أشد المعجبين به، وهو ريتشارد فاغنر الذي تصادف أن شوبنهاور لم يكن يرى موسيقاه رفيعة القدر إلى حد كبير.

وخلال الخمسين سنة الأولى التالية على وفاته، أصبح شوبنهاور واحداً من أعظم الكتاب الأوروبيين تأثيراً، ورغم أنه لم يدع كونه شاعراً، فإن الأبيات الشعرية التي جاءت في نهاية البواقي والحواشي تعد تأملات صادقة لما كان يشعر به في نهاية سنواته الأخيرة، لا سيما تلك التي تحمل عنوان «اللحن الختامي»:

إنني أقف الآن مرهقاً عند نهاية الطريق

جبيني المنهك لا يكاد يحمل إكليل الغار

غير أني أنظر في سعادة

إلى ما صنعته غير مبال بما يقوله الآخرون







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي