فنّ البعد الواحد: نقد مآلات الحداثة عند هربرت ماركوز

2025-11-03 | منذ 8 ساعة

عزالدين بوركة*

 

يبدو للوهلة الأولى كأنّ الفن في العالم المعاصر، حيث تسود البضائع، وحيث يتجلى الواقع نفسه من خلال منظور رأس المال، لم يعد قادرا على المطالبة بالاستقلالية، التي مُنحت له ذات يوم. إن العمل الفني، الذي كان ذات يوم ناقلا للحقيقة والتحرر، يجد نفسه الآن عالقا في آليات ما يسميه هربرت ماركوز «الإنسان ذو البعد الواحد». هذا الفرد، الذي يقتصر على وظيفته الوحيدة كمستهلك، يتطور في عالم يتم فيه خلق الاحتياجات بشكل مصطنع بواسطة المنطق الرأسمالي الذي يهدف إلى إدامة قوته، باختلاق «حاجيات وهمية»، مرتبطة بالتطور التكنولوجي، الذي يقوم على منطق السيطرة والاضطهاد، مما يخضع الفرد لآليات الاستلاب الأيديولوجي المدفوع بقوة الإعلام (التلفزيون، الراديو، الصحف، السينما)، ويجعله خاضعا لهذه الحاجيات الوهمية، التي تسيطر عليه القوى المتحكمة في التكنولوجيا وسياسات التصنيع السلعي والثقافي، التي تقودها المجتمعات الصناعية المتطورة، ما سيتطور مع أدورنو وهوركهايمر بنقدهما لما اصطلحا عليه بـ»الصناعات الثقافية».. ومن ثم قد نجد لهذه الرؤية آثارا في ذلك، تقسيم المجال الإنساني إلى حقول متفرقة – مثلما يوضح أندري غورز في مقاله «الأيديولوجيا الاجتماعية للسيارة»: من فضاء للعيش وفضاء للعمل وآخر للحاجيات ورابع للتعلم وخامس للترفيه (الفن، اللعب)؛ وكلها أفضية متباعدة، لا بد من آلية المواصلات والتنقل إليه، مما يدخل الفرد في دوامة رأسمالية مبنية على نزعة من الرغبات المفرطة النابعة من الحاجيات الزائفة التي لا بد من قطع المسافات لبلوغها، دائما.
يكشف ماركوز، وهو واحد من المؤسسين للتقليد النقدي لمدرسة فرانكفورت، عن عالم تصبح فيه الحرية وهما، وهو محاكاة يتم الحفاظ عليها بعناية من خلال ما يمكن أن نصطلح عليه انطلاقا من فكره بـ»تلفيق الاحتياجات» (أو اختلاق الاحتياجات الزائفة). في هذا السياق، لم يعد الفن قادرا على الهروب من منطق الاستهلاك. إذ تم ابتلاعه، تبعا لهذه النظرة، من خلال ديناميات السوق و»الواقعية» المفروضة، التي تنتج «واقعا زائفا» يطمس الحدود بين الأصيل والمصطنع، بين التجربة الجمالية والاستهلاك البسيط والمفرط.
إن فكرة الفن النقدي، القادر على تجاوز حدود الحياة اليومية للكشف عن التناقضات المتأصلة في المجتمع، تتآكل تحت تأثير ما وصفه ماركوز بـ»هندسة التأكيد». هذه الفكرة، التي طورها مفكرون آخرون مثل نعوم تشومسكي، هي نتاج الهندسة الاجتماعية، التي يتم تنفيذها من خلال وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية والخطابات السائدة. وهكذا، فإن قدرة الفرد على الحكم على العمل الفني، وإيجاد معنى فيه يتجاوز المتعة الجمالية البسيطة، يتم تحييدها من خلال هيمنة «هندسة الإجماع الجديدة». وهو فكر يأخذ الحداثة إلى مفترق طرق، إلى جانب تلك الكتابات التي كتبها كل من أدورنو وهوركهايمر، مجتمعين حول ما اصطلحا عليه بـ»الصناعات الثقافية»، وما كتبه والتر بيامين بخصوص «العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه التقني» وفقدانه الهالة، حيث تم القطع مع النسق المثالي الكانطي والهيغلي، وإن كان هذا الأخير يلعب دورا مهما بالنسبة لرواد مدرسة فرانكفورت في «نقد الحداثة»، أو أزمتها، خاصة في كتاباته الأولى حول مفاهيم «الشرخ» و»الاغتراب». إذ إن القضايا الفنية الجديدة تتجاوز اللحظة التاريخية بالمفهوم الهيغلي. فالحداثة التي كنا نظنها تحررية، انقلبت على نفسها. وبعيدا عن تحرير الفرد، فقد دمجه في مصفوفة، حيث تتم مصادرة الحكم الجمالي من قبل المؤسسات الثقافية التي تدعي احتكار الذوق الرفيع.
فمن ماركس إلى ماركوز، عبر أدورنو وهوركهايمر، كان انتقاد هذه الحداثة واضحا: الفن، الخاضع لقوانين السوق والرأسمالية الاحتكارية، يتحول إلى سلعة مثل أي سلعة أخرى، منتج للاستهلاك بدلا من «التأمل فيه».. أو مثلما يقول ماركوز «فالمجتمع الصناعي المتطور يجرم النقد أساسا». ومن هذا المنظور، تصبح حرية الإعجاب واختيار العمل، كما هو في حد ذاته أمرا عفا عليه الزمن. ويتم الاختيار مسبقا، مسترشدا بالمؤسسات التي تملي القواعد الجمالية وفقا لمصالحها الاقتصادية والأيديولوجية.
تفوق هذه الملاحظة مع النقد الهيغلي للاغتراب، حيث إن الروح [العقل]، في سعيها إلى الحرية، تعوقها الهياكل الاجتماعية التي تهيمن عليها. يُظهر هيغل، من خلال جدله، أن الحرية الحقيقية لا يمكن تحقيقها إلا في الاعتراف المتبادل، في علاقة مع الآخر، وهي علاقة ليست سيطرة. ومع ذلك، في عالم الفن المعاصر، يتم تحريف هذا الاعتراف من قبل قوى السوق التي تفرض من جانب واحد ما ينبغي الإعجاب به أو تقديره أو رفضه. ويتوافق فقدان الحرية هذا في الفن المعاصر مع نقد ماركس للاغتراب ذاته، حيث ينفصل الفرد، في رأيه، عن قدراته الإبداعية وجوهره الحقيقي، إذ يتحدث صاحب «الرأسمال» في مخطوطاته عام 1844 عن اغتراب الفرد في العمل الرأسمالي، حيث يصبح نتاج عمله غريبا عنه. وبطريقة مماثلة، يشعر الفنان، بأن أخذنا الأمر إلى مجال تفكير ماركوز، بالغربة في نظام ثقافي يتم فيه تشويه عمله من قبل قوى خارجية، وخاصة الاقتصادية منها.
وقد أدى التحول من الرأسمالية الليبرالية إلى الرأسمالية الاحتكارية، إلى تفاقم هذا الاتجاه، إذ أصبحت المؤسسات الكبيرة والمتاحف والمعارض ودور المزادات هي سلطات الذوق الجديدة. إنها تشكل الرأي العام، وبالتالي سوق الفن، مما يقلل من مساحة الحرية اللازمة، لظهور أحكام جمالية أصيلة. وقد لاحظ ذلك ماركوز منذ منعطف العقد الرابع من القرن الماضي، وهو ينتقد ما آلت إليه الحداثة، إذ – بالنسبة إليه ومثلما يخبرنا مارك جمينيز- «لم تفقد الثقافة الحديثة شيئا من جانبها التأكيدي، وإنما عززته: على سبيل التمثيل، من خلال تجريد الفن من المحتوى المتفجر أو التخريبي، الذي كان يخفيه حتى تحت شكله المثالي. إذ في الماضي، وعد الفن بسعادة روحانية، لدرجة أنها كانت بعيدة المنال تقريبا؛ من الآن فصاعدا، توفر الثقافة الملذات، ولاسيما تلك المتعلقة بالاستهلاك المتزايد للسلع الثقافية، طالما ظل الواقع القائم والنظام الاجتماعي دون تغيير».
تكاد تتفق مدارس الفكر المعاصر، من الفلسفة التحليلية إلى نقد ما بعد الحداثة والنقد الثقافي، على هذا التشخيص: إن مجال الفن تهيمن عليه الآن قوى تختزل العمل إلى قيمته التبادلية، وتحجب قيمته كاستخدام، أي قدرته على أن يكون ناقلا للمعنى والتفكير، غير أن التحليلين يختلفون مع التوجه الذي قاده ماركوز ومن معه من رواد مدرسة فرانكفورت، حول دور المؤسسات والسوق في عالم الفن والصناعة الفنية، وهو اختلاف جوهري أساسه أن عالمنا المعاصر هو عالم السوق الحرة، حيث تتناقل البضائع بحرية ناقلة معها الثقافة، وبالتالي لا يمكن عزل الفن عن هذه الدينامية التي تفرضها المعاصرة في أبعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية. غير أنه يرى جان بودريار، على سبيل التمثيل، في هذا التطور شكلا من أشكال المحاكاة، حيث يكتفي العمل الفني، بعيدا عن أن يعكس واقعا عميقا، بمحاكاة مظهر مما يفقد أصالته ويلغي عنه فنيته ويجعله سلعة فارغة المحتوى قابلة للاستهلاك فحسب.
ولا يمكن الاستهانة بدور وسائل الإعلام في هذه العملية، حيث تحتل حيزا أساسا في ما يسميه البعض بـ»هندسة الإجماع» أو الرأي الموحد أو الذوق العالمي… إذ تعمل على نشر وتضخيم الأحكام المؤسسية، وخلق ظواهر الموضة حول الفنانين أو الحركات الفنية، وغالبا ما يكون ذلك على حساب جودتها الجوهرية. وضمن هذا الاتجاه يذهب ماركوز إلى تبني الرؤية القائلة بأنه في المجتمع الرأسمالي المتقدم، تحل الاحتياجات الاصطناعية محل الاحتياجات الحقيقية للفرد، والتي تفرضها القوى الاقتصادية والإعلامية. وهذه الحاجات، التي توصف بـ»الاحتياجات الزائفة»، لا تؤدي إلا إلى الحفاظ على النظام الاجتماعي القائم، وبالتالي تحويل الفرد إلى وجود ذي بعد واحد حيث يتم خنق النقد والخيال. وهكذا يصبح سوق الفن انعكاسا لمجتمع العرض الذي وصفه غي ديبور، على أنه يسود فيه المظهر على الجوهر، وحيث يتم تقييم العمل الفني ليس بناء على ما يقوله أو يظهره، ولكن لقدرته على الانتشار في شبكات السوق.
وفي هذا المطاف، تبدو أزمة الفن المعاصر، في ضوء هذه التحليلات، بمثابة أعراض أزمة أعمق للحداثة نفسها. إنها أزمة الحرية والحكم، والذوق والقدرة على خلق قيم أصيلة، في عالم يهيمن عليه المظهر والاستهلاك والإجماع المصطنع. تسائلنا هذه الأزمة عن إمكانية النقد في عصر الرأسمالية المتقدمة، حيث يخاطر الفن بأن يصبح مجرد شكل من أشكال إعادة إنتاج النظام القائم، بدلا من أن يصبح مساحة للتحرر والحقيقة. ويمكن تفسير أزمة الفن المعاصر في ضوء هذه النظرية. الفن، الذي كان في يوم من الأيام مساحة للحرية والنقد، أصبح اليوم يتحول في كثير من الأحيان إلى منتج استهلاكي، وسلعة تخضع لقوانين السوق. تستحضر أود دي كيروس، في عملها «الفن الخفي»، تسليع الفن، حيث يفقد العمل معناه وقيمته الجوهرية، ليوجد فقط كموضوع للتبادل. وتشير إلى أن هذا الوضع يتفاقم بسبب هيمنة المؤسسات الفنية والنقاد، الذين يمليون إلى ما يعدّ فنا، وبالتالي تهميش أي شكل من أشكال التعبير الفني الذي لا يتناسب مع هذا الإطار المحدد مسبقا.
ومع ذلك، فإن هذه النظرة المتشائمة لماركوز، يمكن التشكيك فيها في ضوء الانتقادات التي وجهها مفكرون معاصرون مثل مارك جيمينيز، إذ يسلط هذا، في عمله «خصام الفن المعاصر»، الضوء على حدود نقد ماركوز الماركسي، في ما يتعلق بتطور الفن في القرن العشرين. بالنسبة لجيمينيز، لا يأخذ ماركوز في الاعتبار بشكل كافٍ الديناميات الداخلية للفن، ولا الابتكارات الجمالية والفلسفية التي حولت المشهد الفني إلى ما هو أبعد من الاعتبارات الاقتصادية البسيطة.
تكمن إحدى نقاط الضعف الرئيسية في نقد ماركيوز، بالنسبة لمنتقديه، في اختزاله للفن إلى انعكاس بسيط للقوى الاقتصادية والاجتماعية، وتبنيه رؤية حتمية مبنية على «ضرورة الثورة». يرى ماركوز، متأثرا بفكر ماركس، أن الفن في المقام الأول أداة للنقد الاجتماعي، أو ضحية لهياكل السلطة. ومع ذلك، فإن وجهة النظر هذه تتجاهل قدرة الفن على التطور بشكل مستقل عن الظروف الاقتصادية، وخلق أشكال جديدة من التعبير، وتحدي التوقعات، حتى داخل الإطار الرأسمالي. إذ يُهاجم النهج الذي اتبعه ماركوز، من خلال الإشارة إلى أن الفن المعاصر أظهر قدرة فريدة على استيعاب قوى السوق وتحويلها، وأحيانا تخريبها. على سبيل الذكر، قد استخدمت حركات مثل فن البوب، ​​أو الفن المفاهيمي رموز ومنتجات الثقافة الجماهيرية لخلق معانٍ جديدة والتشكيك في هياكل السلطة بطرق معقدة وغالبا ما تكون مثيرة للسخرية. يُظهِر هذا النوع من الإبداع أن الفن لا يقتصر ببساطة على منتج تنفره السوق، بل إنه قادر أيضا على اللعب عليه، مع الاحتفاظ بقوة نقدية. هذا إلى جانب ظهور نظريات جمالية جديدة، مثل تلك التي طورها جان فرانسوا ليوتار، أو جيل دولوز، جعل من الممكن إعادة التفكير في الفن من حيث التعددية ونشر المعاني، وليس من حيث الاختزال إلى بعد نقدي واحد أو اقتصادي. تسلط هذه التطورات الفلسفية الضوء على حدود منهج ماركوز، وتبين أن الفن المعاصر يمكن أن يكون مساحة للحرية والإبداع، حتى في السياق الرأسمالي.

 

*كاتب مغربي

 











شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي