رواية “عودة البحار”: تجميل الحياة بالأكاذيب

2021-02-03

حامد الناظر*

الحقيقة ليست ضرورية في كل الأحوال، وليست مهمة كذلك عندما تفسد بهجة الحياة كما لا يفعل أي شيء آخر، بل العكس، قد تصلح الأكاذيب الجميلة في إضافة مباهج ضرورية على حيواتنا بشكل لا غنى عنه.
هل نتخيل مثلا بحاراً من دون سفينة؟ من دون أن يلمس دفة أو مرساة على الإطلاق؟
من دون أن يركب البحر ولو مرة واحدة في حياته؟ لكنه يحكي عن مغامرات بحرية لا حصر لها، وسفن وموانئ لم تطأها قدماه. لدينا هنا واحد من هذا النوع المُلهَم.
يحمل رتبة رئيس بحارة مع أوسمة رفيعة ومناظير وتلسكوبات وأطقم مختلفة من لباس البحارة وغلايينهم لدينا كذبة طويلة جميلة أغنت حياة (الكابتن فاسكو موسكوسو دو أراغان) وجعلتها أقرب إلى الأسطورة.
في لحظة تجلٍ نادرة يؤكد القاضي المتقاعد الدكتور ألبرتو سيكويرا ـ الذي تخونه عشيقته دائمًا مع مؤرخ القرية الصغير، خلال ساعات القيلولة التي تشهد غيابه ـ يؤكد فضيلته أن الحقيقة «ملقاة في قرارة بئر وعارية» فالبئر ليست بئراً والقرارة ليست قرارة، وإن هذا يعني أن الحقيقة يصعب نيلها، وأنها لا تعرض نفسها عارية في الأسواق أمام كل إنسان، ولكن علينا البحث عن حقيقة كل واقعة، وأن نغرق أنفسنا في ظلمة البئر لكي نصل إلى نورها القدسي».
أما المؤرخ المتهتك الذي ينام مع عشيقة فضيلته دوندوكا السمراء في ساعة القيلولة، يروي لنا حكاية البحار الماكر الكابتن فاسكو موسكوسو دو أراغان يقول «صدقوني إن رغبتي، ورغبتي الوحيدة، هي أن أكون موضوعياً، وبعيداً عن العواطف، رغبتي هي البحث عن الحقيقة وسط المجادلات، ونبشها من الماضي بدون انحياز، وتعريتها من الصيغ المتناقضة، التي نسجها الخيال من أجل إخفاء الحقيقة العارية ولو جزئياً».

إيقاظ الحقيقة النائمة

«عودة البحار» للبرازيلي جورج أمادو (1912 ـ 2001) ترجمة ممدوح عدوان ـ دار العودة 1997 تقول لنا: إن القليل من الأكاذيب الرائعة من شأنها أن تجعل حياتنا جميلة، بشرط أن نترك الحقيقة مرتاحة هناك في مكانها، في قرارة البئر، ومن دون أن نقلق راحتها، فالحقيقة التي جعلت طاقم السفينة (إيتا) وضباطها ورجال الجمارك والبحارة المخضرمين وعمال المرفأ، يسخرون من الكابتن فاسكو موسكوسو دو أراغان وهو يغادر السفينة على مرفأ بيليم مجللا بالعار لن نتعاطف معها البتة. الطبيعة وحدها ستتعاطف مع أكاذيب الكابتن فاسكو حين تثأر له منهم جميعاً فيعود إلى قريته بريبري مجللا بالنصر والمزيد من الأوسمة الحقيقية هذه المرة، لينتصر بالضربة القاضية على كل المتشككين في حقيقة حياته وأولهم شيكو باشيكو، موظف الجمارك السابق، الذي حمل على عاتقه إيقاظ الحقيقة النائمة في قرارة البئر فغادر القرية مهزوماً وإلى الأبد.
«عودة البحار» هي حكاية فاسكو دو أراغان، الفتى المدلل الذي ورث عن جده لأمه ثروة كبيرة، بددها على السهرات مع الأصدقاء في المواخير.
كان صديقاً لطبقة مهمة في مجتمع مدينة باهيا البرازيلية فيها الطبيب والضابط ومدير المرفأ والقاضي والسناتور والمحافظ.
كان كل واحد منهم يحمل لقباً مهماً يسبق اسمه عداه هو، إذ كانت كارول صاحبة المبغى تقدمه إلى ضيوفها بالسيد دو أراغان، الأمر الذي تسبب له في حزن عميق، حتى انتشله صديقه مدير المرفأ بأن رتب له امتحاناً شفوياً للحصول على لقب رئيس بحارة، فحصل عليه مشفوعاً بشهادة مؤطرة من دون أن يضع قدمه على سفينة قط، ثم أتبعه بوسام المسيح من ملك البرتغال بعد أن دفع معظم ثروته.
تتبدل الحياة، ويتفرق الأصدقاء ويتبدد المال، فيختار الكابتن المزيف قرية هادئة على ساحل البحر (بريبري) ليقضي فيها سنوات تقاعده، وهو على مشارف الستين حاملاً لقب رئيس بحارة سابق، يشتري منزلاً ويصبح الكابتن جزءاً أصيلاً في القرية. يحرك الحياة بأكاذيبه الجميلة ومغامراته الزائفة في أعالي البحار ومضائق آسيا وافريقيا فينقسم المجتمع حيال ذلك بين مصدق ومكذب. تروى الحكاية على لسان مؤرخ هاو في القرية، يخبرنا عن جانب منها، فيما يتولى موظف الجمارك المتقاعد شيكو باشيكو النبش في ماضي الكابتن دو أراغان لفضح أكاذيبه أمام سكان القرية كما يزعم.

جورج أمادو (1912 ـ 2001)
تلعب الأقدار لعبتها مع القبطان المزيف، إذ يموت رئيس بحارة السفينة (إيتا) في عرض البحر، قريباً من سواحل باهيا، وتبحث شركة الملاحة عن رئيس بحارة في أقرب عنوان حسب المعلومات المدونة في سجل رؤساء البحارة، ليبحر بها من باهيا إلى بيليم، ويرى خصوم دو أراغان أن الفرصة حانت لاختبار مزاعمه. يتواطأ مندوب الشركة مع الكابتن دو أراغان، وكذلك بحارته في صمت. يصعد إلى إيتا ويتظاهر بالنبل والتواضع، وبأنه لن يغير في أي شيء في خطة الإبحار ولن يلمس شيئًا حتى تبلغ إيتا المرفأ الأخير في بيليم.
أمادو يجعلنا نتعاطف مع رئيس البحارة الزائف ومع أكاذيبه حتى النهاية. حتى عندما يسأله نائب رئيس البحارة عند الوصول إلى المرفأ الأخير عن خطة الرسو، ويجيب دو أراغان جوابه المعتاد (لن أتدخل في أي شيء) يصر نائب القبطان أن الجواب في هذه اللحظة تقليدي عريق تفرضه قوانين البحارة، وهو من صميم عمل رئيس البحارة فيجيب أراغان ـ بشكل يبدو اعتباطيًا ـ أن يكون الرسو بكل ما يوجد على السفينة من مراسي وهوسرات وحبال في المقدمة والمؤخرة، حتى بدت في النهاية كالثور المقيد على الرصيف وسط الضحكات والغمزات المتهكمة.
تهب عاصفة رهيبة على بيليم في جوف الليل فتتحطم جميع السفن الراسية في المرفأ، ويتحطم المرفأ نفسه، وتنجو إيتا المتغطرسة بسبب الحكمة المتوهمة للكابتن دو أراغان، نتيجة شعوره بالحرج والتفاهة أمام الأسئلة الخبيثة والضحكات الساخرة للبحارة. تتحدث الصحف في الأيام التالية عن إيتا وقبطانها المخضرم الماكر، ويعود إلى قريته مشمولا بالزهو والموسيقى والأوسمة والتقدير.

تجنب الحقيقة أو إخفائها

«عودة البحار» تطرح أسئلة فلسفية عميقة من شأنها أن تزعزع إيماننا بماهية الحقيقة، وما إذا كانت نسبية أو مطلقة؟
ضرورية أم رغبوية؟ وحول نظرتنا المجردة إليها، الخالية من أي تأثير. حياة الكابتن فاسكو دو أراغان المجمّلة بالأكاذيب، لا تعدو أن تكون وجهاً آخر لتلك الحقيقة التي ألقتها الرواية في (قرارة بئر) مثلما تعاطفنا مع الكابتن دو أراغان حتى النهاية، كشف لنا أننا نحب هذا الوجه الجميل للحياة، لأنه ضرورة في بعض الأحيان أكثر منه مجرد رغبة في تجنب الحقيقة أو إخفائها. أكدت الرواية بشكل لا لبس فيه الحاجة إلى الخيال لجعل الحياة محتملة، وبمعنى آخر حاجتنا إلى الفن عموماً كمعادل جمالي لمواجهة قبح الواقع، إذ إن الأكاذيب المحتملة للكابتن دو أراغان لم تؤذ أحداً، سواء في مجتمع القرية الصغير أو مجتمع مدينة باهيا، وحتى في لحظة الاختبار الوحيدة التي تعرضت لها على متن السفينة إيتا، خلقت متعًا مختلفة لركابها وأطقمها وأشاعت جواً من البهجة والرومانسية، ولم تصل إلى حدود الخطر، بل خلقت معنى جديدًا لحياة الكابتن المليئة بالملل والتفاهة.
في نهاية الرواية، يوجه إلينا جورج أمادو – على لسان مؤرخ القرية الذي سجل وقائع الأحداث – جملة من الأسئلة تلخص المغزى من الحكاية: هل يستطيع قرائي الآن، بثقافتهم وخبرتهم، أن يقولوا لي ما هي الحقيقة، الحقيقة الكاملة؟
وما المغزى من هذه القصة؟ هل تكمن الحقيقة في الحوادث اليومية والحوادث المتكررة؟ أم أن للحقيقة مأواها في الحلم الذي أُعطيناه للهرب من شرطنا الإنساني؟


*روائي سوداني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي