إيمانويل تود وأنثروبولوجيا العائلة: إعادة اكتشاف أوروبا والعالم الإسلامي

محمد تركي الربيعو
2021-01-30

في فترة السبعينيات من القرن الفائت، برز الأنثروبولوجي الفرنسي إيمانويل تود بوصفه أحد المهتمين بتاريخ البنى العائلية في أوروبا والاتحاد السوفييتي. كان تود قد وصل إلى فكرة تقول إن تحليل المجتمعات والحداثة والتحولات الدينية، لا يمكن تفسيرها فقط من خلال التحليل الماركسي، أو تحليل ماكس فيبر حول التدين البروتستانتي بوصفه أساس الإصلاح، ولذلك أخذ هذا الباحث يسافر في سجلات العائلات وتواريخ البنى العائلية في العالم الغربي. في تلك الفترة ربما لم يكترث كثيرون للتحليل الديموغرافي، مع ذلك وصل في عام 1976 بكتابه «السقوط النهائي: انهيار الشيوعية العالمية السوفييتية» إلى فكرة تقول إن انخفاض الولادات خلال خمسين سنة من عمر روسيا، خلق نمطا عائليا آخر أكثر مساواة، وهذا ما كان يعني برأيه ظهور مواطنين روس قادرين على إسقاط الشيوعية. ظن يومها كثيرون أنّ كلام الرجل شيء من الدعابة، أو على أقل تقدير يبقى تكهنا، لكن بعد ذلك بسنوات قليلة كان التكهن يتحول إلى نبوءة إن صح التعبير، فقد أثبتت الأيام أنّ الديناصور السوفييتي كان يتفتت من الداخل.

وخلال هذه الفترة، سيعمق تود من منهجه هذا عبر إصدار كتاب آخر في عام 1983 بعنوان «الكوكب الثالث: بنى أسرية ونظم أيديولوجية» حاول فيه إعداد نظرية أنثروبولوجية تفسر الاختلاف السياسي بين المجتمعات في مرحلة تحديثها من خلال البنى العائلية، لكن سيبقى الكتاب الأهم في مسيرته، ربما كتاب «اختلاف أوروبا» أو اكتشافها (1990) إذ سيتمكن تود فيه من تقديم رؤية جديدة حول صورة أوروبا وكيف تشكل الوعي الديني فيها خلال خمسمئة سنة، وما عرفته لاحقا من أيديولوجيات، من خلال مدخل البنى العائلية كعامل أساسي في فهم هذه التغيرات. وقد بقي هذا العالم في عالمنا العربي شبه مجهول، في حين كان يجري التعرف على تود في العالم العربي بشكل أفضل عام 2015 من خلال كتابه «ما بعد شارلي» وربما هذا ما شجع «مؤمنون بلا حدود للنشر» على تبني ترجمة كتابه الأساسي حول أوروبا، وهو كتاب ضخم قرابة (800 صفحة) وتولى ترجمته الأكاديمي التونسي أحمد فاضل الهلايلي، ولم يحظ الكتاب إلى يومنا هذا بالاهتمام الكافي من قبل القارئ العربي. وبالعودة لأطروحة تود الأساسية، فهو يرى أنّ تحليل البنى العائلية وتوزعها في المكان، يمكّننا من تتبع التنوع الأوروبي على مدى خمسمئة عام. فالقيم الأساسية للحرية، أو السلطة وللمساواة، أو التمايز، التي تنشّط الحداثة، هي قيم متجذرة في ذاك المجال العائلي الأصيل، ولذلك فإنّ إدراك ومعرفة الأنماط العائلية وتنوعها، يسعفنا في تفسير أغلب ردود الفعل في الجهات على حركات الإصلاح البروتسانتي وعلى الثورة الفرنسية، كما يمكننا من تفسير تضاعف أنواع من النزعات الاشتراكية والنزعات القومية في القرن العشرين.

يبدو المجال الأنثروبولوجي الأوروبي منذ العصر الوسيط مجالا مجزأ، فهناك أربعة أنماط عائلية تتمايز من ناحية مفهوم العلاقات والأسر والأطفال، ومن ناحية الروابط بين الأخوة وهذا التنوع العائلي يفسر قابليتها الدائمة للتجزؤ منذ القرن السادس عشر حتى القرن العشرين، لكن يمكن القول إنّ أهم نمطين هو نمط العائلة النواتية المساواتية، وفيها تكون العلاقات بين الآباء والأبناء من صنف تحرري، وتكون العلاقات بين الأبناء من صنف مساواتي، أما النمط الثاني فهو النمط الجذعي الذي تقوم فيه العلاقات بين الآباء والأبناء على بعد سلطوي، والعلاقة بين الإخوة تكون تمايزية كذلك. وبالعودة إلى القرن السادس عشر وحركة الإصلاح البروتستانتي، يتساءل تود لماذا تبنت عدد من الجهات البروتستانتية بحماسة، في حين أنّ آخرين ظلوا أوفياء مدة أطول للديانة التقليدية لأوروبا. واعتماداً على رؤيته السابقة، يرى تود أن خلف جغرافيا الحداثة الدينية، تتجلى الجغرافية التقليدية للأنماط العائلية، كما يرى أن موت الله الذي أعلن عنه بعد ذلك بقرنين هو أيضاً من إفراز المجال العائلي.

موضوع يهمك : نحتاج إلى الكثير من الأزهار / مختارات من شعر الشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد

تقترح البروتستانتية في واقع الناس دمقرطة الوعي الديني وتحقيق ذلك، بينما هي في المستوى الميتافزيقي تؤكد عبودية البشر وتمايزهم، وتؤمن بالقضاء والقدر، فالإصلاح اللوثري هدف إلى إلغاء احتكار رجال الدين للحياة الدينية، والبروتستانتية تروم القطع مع ديانة مفصولة عن الناس، فلوثر يتطلع إلى مسيحيين متساوين لمواجهة القوانين التي سنتها روما الكاثوليكية، عبر الانكباب الكلي على الكتب المقدسة، وترجمة النصوص والدواوين الدينية إلى لغة عامية، وعبر تزويج الكهنة، وإلغاء تعاليم رجال الأديرة، ورفض سلطان البابا. لكن على صعيد المعتقدات فإن الإصلاح اللوثري ينطوي على عبودية البشر للإله وتمايزهم عنده، وهذا مكون مفهومي مناقض لواقعه على الأرض، بينما نرى في الكاثوليكية أنّ الغاية الدنيوية هي ترسيخ احتكار رجال الدين للحياة اليومية، ولذلك فالبعد الدنيوي في الكاثوليكية تمايزي وولائي، لكن على الصعيد العقائدي فهي تساوي الحظوظ والتكفير عند كل البشر، وبذلك لا تتطابق مع الفكرة البروتستانية حول القضاء والقدر، التي تفترض وجود مصير مقدر لكل إنسان قبل الولادة، والرب في هذه الحال ليس جباراً وهو ليس ذاك العنيد الذي لا يستجيب، وهكذا الكاثوليكية تظهر مكونا ميتافيزيقيا مساواتيا وتحرريا يقابل المكون الدنيوي التمايزي والولائي.

بعد شرح هذا التمايز بين الكاثوليكية والبروتستانتية، يبين تود أن الحلقة الأولى من تطور البروتستيانية قد تشكلت في ألمانيا، حيث تمثل البنى العائلية ذات النمط الجذعي (سلطة الأب) مجمل الأساس الأنثروبولوجي، وهو النمط الذي يبدو قريبا من الفكرة العقائدية البروتستانية حيال سلطة الله وتمايز الأفراد لديه، وكذلك الأمر في سويسرا، حيث تعد تلك البنى 88٪ أما الحلقة الثانية من الانتشار فقد وجهت إلى اسكندنافيا، حيث توجد في السويد نسبة 79٪ من بنى النمط الجذعي، في المقابل لم تتمكن هذه الرؤية الدينية من النفاذ إلى الحوض الباريسي، حيث تهيمن العائلة النواتية المساواتية، ما أتاح الفرصة للرؤية الكاثوليكية بالصمود، كونها رؤية تقوم على طابع مساواتي على المستوى العقائدي، ولذلك فإنّ الأقاليم الثلاثة الكبرى التي هيمن عليها هذا النمط الأنثروبولوجي المساواتي أصبحت الأبطال الثلاثة الأساسية المواجهة للبروتستانتية، تلك الأقاليم هي الحوض الباريسي لفرنسا وشمال إيطاليا وجنوبها، ثم إسبانيا.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي