"نظرية التفاحة المتعفنة" والمظلمة العنصرية.. مغالطات تاريخية

2021-01-28

هل يمكن جبر المظالمأبو بكر العيادي

تختلف الآراء حول مراجعة التاريخ بهدف إنصاف المظلومين، شعوبا وقبائل. ثمة من يقول إن تلك المآسي، كالاسترقاق والاستعمار وما تلاهما من قتل وتنكيل وتهجير، باتت في عداد الماضي، ولا جدوى من إعادتها إلى الذاكرة، وإن المؤرخين بها أولى.

وفي المقابل ثمة من يرى أن ذلك من أوكد واجباتنا اليوم، ليس لرد الاعتبار لمن تعرضوا لتلك المظالم، أو تكريم أرواحهم فحسب، وإنما أيضا لقطع الطريق على الذين لا تزال تلك الممارسات الشنيعة تتلبّس بمخيالهم، تصنع معتقداتهم وتكرّس سلوكهم الجائر تجاه الآخر، بل وتكيّف حتى طرق تعامل المؤسسات العامة مع المتحدرين من الشعوب المغلوبة على أمرها.

المظلمة الماضية
في كتاب “الإنصاف ممّا يتعذّر إصلاحه: العبودية الكولونيالية والمسؤوليات المعاصرة”، تقترح المفكرة الفرنسية ماغالي بيسّون إخراج التعويضات عن العبودية وتجارة الرقيق من الجدل لطرحها كإشكالية، وترسم غاية مضاعفة لفهم تلك المطالب: توضيح أسباب عدم فهمها ومصادره، وتوفير إطار تأويلي يسمح بتقييم مشروعيتها الأخلاقية.

إذا فرضنا أن إصلاح الماضي مستحيل، فإن من الواجب أخذ مطالب العدالة بجد وتواضع، وفي رأيها أن ذلك لا يكون إلا من خلال فهم أكبر لماهية المظالم السابقة وطبيعتها، فالاستعمار وتجارة الرقيق والاستعباد في المستوطنات وقوانين الميز العنصري هي مظالم تاريخية، لأن ضحاياها، ومرتكبيها أيضا، قضوا نحبهم منذ عشرات السنين وربما منذ قرون. فكيف يمكن تلبية مطالب حديثة لإنصاف أناس غابرين؟ وكيف يمكن القصاص ممن لم يعد له وجود؟

الذين يعترضون على هذه المطالب يلاحظون أن تلك الجرائم الفظيعة كانت تستند إلى معتقدات أخلاقية وآداب عامة وبنى مؤسساتية وقضائية تمّ إصلاحها تماما منذ ذلك الوقت، وأنها صارت في عداد ماض انفصلوا عنه ولا يعنيهم في شيء.

ولكن بيسّون ترى أن هذه الطريقة في صياغة سؤال المظالم تقود إلى عدم فهم طبيعتها، فبدل أن ننظر إليها كجرائم عفا عليها الزمن، ينبغي أن نتصورها كمظالم مستمرّة تسيء إلى بنيان الجمهورية قانونيا وسياسيا واجتماعيا، وليس كعدالة جنح أو جنايات، تلك التي تقوم على تحديد هوية الجاني ثم جبر الضرر بتغريمه أو سجنه، لأن مشكلة المظالم الماضية تُطرح بشكل مغاير، إذ كيف يمكن نسبتها إلى من رحلوا، وكيف يمكن التعرف على من يستحق الإنصاف، والضحايا ماتوا منذ زمن بعيد ما يجعل التأكد من روابطهم مع الخلف أمرا عسيرا؟

إن مقاربة هذه المسألة على هذا النحو تؤدي إلى سلسلة من المشاكل المستعصية، ومن ثمّ تعتقد بيسّون أننا إذا أقلعنا عن فهم المظلمة الماضية من منظور تشريعي فردي والنظر إليها من منظور بنيوي أمكننا التفكير في طريقة إصلاح وإنصاف مغايرة.

"الإنصاف ممّا يتعذّر إصلاحه: العبودية الكولونيالية والمسؤوليات المعاصرة"

في رأيها ليست الجريمة كما حدثت في الماضي هي التي ينبغي تسليط العقاب على مرتكبها وإنصاف ضحيته، بشكل أو بآخر، وإنما البنى المؤسساتية الحالية، بما كرسته وتكرسه من مظاهر تفاوت عرقي ناجم عن تلك المظالم التاريخية، وما تمثله من امتداد لماض استعبادي وإمبريالي واستعماري، هي التي ينبغي إصلاحها، بمساهمة كافة أفراد الشعب، دون تمييز.

تلك البنى تمس المؤسسات الاجتماعية كالنظامين الصحي والتربوي، مثلما تمس المؤسسات القضائية والتشريعية كالقوانين والمنظومة الإصلاحية، وكذلك المؤسسات الاقتصادية كالنظام الرأسمالي ما بعد التصنيع الشامل وسوق الشغل.

الاستحقاق الأخلاقي
يصر المعترضون على أن كل الجرائم السابقة هي من مخلفات الماضي، وأن الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حرمت منها تلك المجموعات لم يعد لها اليوم مكان، وأن المظالم الحقيقية الوحيدة اليوم هي بفعل أفراد سيئي الطوية، وهم الذين ينبغي محاسبتهم ومعاقبتهم وليس المنظومة.

إن إسقاط “نظرية التفاحة المتعفنة” هذه على المظلمة العنصرية يحتوي على مغالطات توقفت عندها الكاتبة لتفكك عناصرها، حيث تناولت الفترة الممتدة من تاريخ إلغاء العبودية عام 1848 إلى استقلال البلدان التي كانت مستعمَرة، لتبين أن البنى القضائية والاقتصادية والاجتماعية الفرنسية لم تسمح بالتوسع الكولونيالي واستعباد ملايين البشر فحسب، بل ما زالت حتى يومنا هذا تنتج مظالم عنصرية.

وخلافا للفكرة الرائجة، لاسيما في دروس الفلسفة التي تمجّد الأنوار فيردد السياسيون والمثقفون من ورائهم ذلك التمجيد، لم تكن العبودية وتجارة الرقيق “حالة شاذّة” أو مفارقة تاريخية تخالف قيم الجمهورية ومثلها العليا، بل إنها وُلدت معها، ونظّر لها وسوّغها كبار فلاسفتها، وازدادت حدّة في الفترة المتاخمة لاندلاع الثورة.

وفي رأيها أن من الواجب مواصلة “عمل التاريخ” أي نفض الغبار عن المصادر والأرشيف والشهادات التي ظلت مهملة، وإقحام أصوات أخرى في الجدل حول طبيعة الجمهورية، لإعادة كتابة السردية التاريخية التي أقرتها، على أن تضاف إليها فصول كاملة أقل مجدا وافتخارا دون ريب.

وماغالي بيسّون هي أول مفكرة تصدع بمثل هذه الحقائق، وتبين بالأدلة والقرائن كيف أن الإصلاحات التشريعية والمؤسساتية التي أجريت داخل فرنسا وفي مستعمراتها بعد إلغاء العبودية كانت تصوّب وضع العبيد حسب القانون الجديد، ولكنها ترفق ذلك بإجراءات تهدف إلى تكريس أولوية البيض على أفراد الجماعات المعنصَرة، فقد سنّت مثلا عام 1848 قانونا يمكن البيض من تعويض عن ممتلكاتهم، أي عن عبيدهم، ولا يزال موجودا حتى اليوم في المدونة التشريعية الفرنسية.

المفكرة الفرنسية ماغالي بيسّون: من الواجب مواصلة "عمل التاريخ"

وفي رأيها أن تلك القوانين شكلت قاعدة للاستغلال الاقتصادي لمرحلة ما بعد إلغاء العبودية، وساهمت في إنزال الأفراد المعنصَرين إلى درجات سفلى في سوق الشغل، أو تصنيفهم في منطقة دنيا لاستغلاهم على هامش المجتمع، أي أن ثمة تواصلا في المعايير العنصرية مثّل قاعدة للاستغلال الاقتصادي ما بعد إلغاء العبودية.

إذا كانت العدالة الإصلاحية، التي تقوم على منطق سببي، فردي وقضائي، لا تناسب جبر المظالم البنيوية أساسا، فإن ثمة من ينصح باعتماد عدالة توزيع أساسها تنظيم المؤسسات الاجتماعية وتعديل سيرها، لكونها الضامن لمبدأ الحماية الاجتماعية لمن يجد نفسه في وضع المحتاج بسبب صروف الدهر، وهي التي يمكن أن يساهم تطبيقها على المظالم التاريخية في الحد من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي الذي يعاني منه الأفراد المعنصَرون.

ولكن ذلك لا يغني عن الاستحقاق الأخلاقي، لا المالي، لأن التعويض المالي سوف يلغي جينيالوجيا تلك البنى العنصرية، في حين أن الاستحقاق الأخلاقي يخص الإنصاف لجبر مخلفات العلاقات العنصرية التي دمّرتها قرون من الإساءة والعنف والاغتصاب والانتزاع.

تقول بيسّون “ينبغي أن نقرأ في مطالب الإنصاف طلب اعتراف قائم على الاحترام والثقة، ووضع الماضي في الحسبان لإعادة الحقيقة إلى نصابها”.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي