"حفلة شاي" - قصة هارولد بنتر - ترجمة خالد الجبيلي

خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2009-05-15

(كتبت هذه القصة القصيرة في عام 1963. وفي عام 1964، كلفتني هيئة الإذاعة البريطانية بكتابة مسرحية لإذاعتها في هيئة الإذاعة الأوروبية. وقررت أن أتناول موضوع القصة ولكن في شكل مسرحية. وفي رأيي أن القصة كانت أفضل وأكثر نجاحاً من المسرحية هـ. ب.).

ازداد بصري سوأ.ً

يبلغ طول طبيبي ستة أقدام تقريباً. يخطّ شعره خط رمادي، خط واحد، لا أكثر، وعلى خدّه الأيسر شامة بنية اللون. كان غطاء المصباحين الأسطوانيين أزرق غامقاً، يحّف كلاً منهما خط ذهبي. إنهما متشابهان. ثمة ثقب أسود عميق في سجادته الهندية ناجم عن حرق. المرأة التي تساعده تضع نظارات. من وراء ستارة النافذة تناهت إلي أصوات الطيور في حديقته. وبين الحين والآخر، كانت تظهر زوجته، متشحة بثوب أبيض.

يبدو أنه غير متأكد من حالة عينيّ. في رأيه أن عينيّ في حالة طبيعية، بل ربما كانتا أفضل حالاً من العيون الطبيعية نفسها. وقال إنه لم يجد أي دليل يشير إلى أن رؤيتي تزداد سوءاً.

لقد ازداد نظري سوأً. لا أقول إني لا أبصر. لا، فانا أرى.

عملي يسير على ما يرام. لا نزال أنا وأفراد أسرتي أصدقاء مقربين. وابناي هما أعزّ صديقين لي. علاقتي بزوجتي متينة ووثيقة جداً. علاقتي مع جميع أفراد عائلتي، بمن فيهم أمّي وأبي، رائعة. في غالب الأحيان، نجلس معاً ونستمع إلى باخ؛ وعندما أسافر إلى اسكوتلندا أصطحبهم معي. في إحدى المرات، رافقنا شقيق زوجتي، وكان مفيداً في الرحلة.

لديّ هوايات عديدة، منها استعمال المطرقة والمسامير، أو مفكّ البراغي والبراغي، أو أستخدم مناشير مختلفة أصنع بواسطتها أشياء عديدة من الخشب، أو أصنع أشياء مفيدة، وأجد فائدة من أشياء كانت تبدو عديمة القيمة. لكن ليس من السهل أن تفعل ذلك وأنت مصاب بازدواجية في رؤيتك، أو عندما يعميك الشيء، أو عندما لا ترى على الإطلاق، أو عندما يعميك ذلك الشيء.

زوجتي سعيدة. غالباً ما استخدم خيالي في السرير. نمارس الحبّ والنور مضاء. أحدّق فيها، وهي تحدّق فيّ كذلك. في الصباح، تشرق عيناها. يمكنني أن أراهما متلألئتين من وراء نظارتها.

كانت السماء صافية طوال فصل الشتاء. لم تتوقف الأمطار عن الهطول في الليل. في الصباح كانت السماء تزداد صفاء وإشراقاً. الضربة بقفا يدي أقوى سلاح لديّ. آخذ موقعي في مواجهة شقيق زوجتي في الجانب الآخر من الطاولة العزيزة، أمسك المضرب بيدي، رسغي منثن، منتظراً اللحظة المناسبة لكي أوّجه ضربتي، أراقبه (مصدوماً) وهو يثب ويُهزم، ثمّ يتقدم متعثراً مقطباً حاجبيه. ضربتي وراحة يدي مقلوبة بالاتجاه الآخر ليست قوية جداً، لكنها سريعة جداً. وكما أتوقع، فإنه يسدد لي ضربة وراحة يدي مقلوبة في الاتجاه الآخر. كان هناك صوت رنين في الغرفة، صوت مطاطي مكتوم على الجدار. وكما هو متوقع، هاجمني بضربة وراحة يدي مثنية في الاتجاه الآخر. عندما أضرب الكرة ويدي مقلوبة في الاتجاه الآخر، يترنّح. أراقبه وهو يتخبّط، يسقط بقوة، ويُهزم. كانت لعبة متكافئة. لكن لم يعد من السهل عليّ الآن لأني أصبحت أرى الكرة مزدوجة، أو لأني لم أعد أراها على الإطلاق، أو لأنها عندما تندفع نحوي بسرعة، تعميني.

إنني مسرور جداً من سكرتيرتي، فهي تجيد عملها وتحبّه. إنها جديرة بالثقة. تنوب عني في إجراء اتصالات هاتفيه إلى نيوكاسل وبرمنغهام. تبدو في غاية الاحترام عندما تتكلم على الهاتف. صوتها مقنع. أنا وشريكي متفقان على أنها سكرتيرة ذات قيمة لا تقدّر بثمن بالنسبة لنا. وغالباً ما يتحدث شريكي وزوجتي عنها عندما نلتقي نحن الثلاثة لاحتساء القهوة أو بعض المشروبات. عندما يتحدثان عن ويندي، لا أحد منهما يمتدحها.

في الأيام المشرقة التي بدأنا نرى الكثير منها هذه الأيام، أُسدل الستائر في مكتبي لكي أملي رسائلي عليها. في غالب الأحيان، ألمس جسدها الممتلئ. تعيد قراءة ما كنت قد أمليته عليها، تقلب الصفحة. تجري مكالمة هاتفية إلى برمنغهام. وحتى لو لمست جسدها الممتلئ وهي تتكلّم (تمسك بسماعة الهاتف بإحدى يديها برفق، وتكون مستعدة لتدوّن ملاحظات بيدها الأخرى)، فإنها تواصل حديثها على الهاتف حتى النهاية. إنها هي التي تضمد عينيّ، بينما أتحسس جسدها المكتنز.

عندما كنت صبياً، لا أذكر أنني كنت أشبه ولديّ بأي شكل من الأشكال. إنهما متحفظان إلى درجة كبيرة. عندما يُستثاران لا يبدو عليهما أي انفعال أو عاطفة. يجلسان صامتين. يتهامسان فيما بينهما ويتحدثان كلاماً غريباً. أقول لهما إني لا أستطيع أن أسمعكما، ماذا تقولان، ارفعا صوتيكما. زوجتي تقول لهما الشيء ذاته. لا أستطيع أن أسمعكما، ماذا تقولان، ارفعا صوتيكما. لقد بلغا سن الرشد. يبدو أن أداءهما جيد في المدرسة، أما في لعبة كرة الطاولة فهما فاشلان فشلاً ذريعاً. عندما كنت صبياً، كنت يقظاً، وكانت تتملكني اهتمامات شهوانية. كنت طلق اللسان، سريع الاستجابة، حادّ النظر. إنهما لا يشبهاني في شيء على الإطلاق. عينا كل منهما لامعتان ومراوغتان من وراء نظاراتيهما.

كان شقيق زوجتي هو إشبيني في  زفافنا. في ذلك الوقت لم يكن أحد من أصدقائي موجوداً في البلد. فقد اُستدعي أعزّ صديق لي، الذي كان يفترض أن يكون إشبيني، في مهمة عمل مفاجأة. ولأسفه الشديد، اضطر للذهاب. كان قد أعدّ كلمة رائعة تكريماً للعريس، وكان يريد أن يلقيها في حفل الاستقبال. طبعاً، لم يكن بإمكان شقيق زوجتي أن يلقي الكلمة بنفسه، لأنها تتحدث عن الصداقة الطويلة التي كانت تجمعنا أنا وأتكينس، بالإضافة إلى أن شقيق زوجتي لم يكن يعرف أشياء كثيرة عني. لذلك كان يواجه مشكلة حقيقية، لكنه وجد حلاً لها بأن زودته أخته بمعلومات عني. لا أزال احتفظ بالهدية التي  كان قد قدمها لي، وهي مبراة أقلام رصاص من بالي.

في اليوم الذي أجريت فيه مقابلة لويندي لأول مرة، كانت ترتدي تنورة ضيّقة من قماش التويد. لم تتوقف فخذها اليسرى عن مداعبة فخذها اليمنى، وفخذها اليمنى عن مداعبة فخذها اليسرى. كان كلّ ذلك يجري تحت تنورتها. بدت لي أنها سكرتيرة مثالية. كانت تنصت إلى النصائح التي أقدمها لها باهتمام شديد، وكانت تفتح عينيها على وسعيهما. كانت يداها متشابكتين بهدوء. كانتا أنيقتين، بارزتين، مكتنزتين، ورديتين، منتفشتين. كان من الواضح أنها تتمتع بعقل نشط وذكاء وقاد. في ذلك الحين، نظّفت نظاراتها بمنديل حريري ثلاث مرات.

بعد حقل الزفاف طلب شقيق زوجتي من زوجتي العزيزة أن تخلع نظارتها. حدّق في أعماق عينيها، وقال لها: لقد تزوّجت رجلاً طيباً. إنه سيجعلك سعيدة. وبما أنه لم يكن لديه عمل آنذاك، دعوته للعمل معي في شركتي، وسرعان ما أصبح شريكي. كان شديد الحماسة، ويتمتع بفطنة شديدة.

إن ذكاء ويندي وسداد رأيها، ووضوحها، وقدرتها على كتمان السر، أمور لا تقدّر بثمن بالنسبة لشركتنا.

أضع عيني في ثقب المفتاح وأسمع  صوت صريرهما. الشقّ أسود، فحيحهما وتقلبهما في النعيم. الغرفة تقبع فوق رأسي، جمجمتي تتغضن على المقبض النحاسي الكريه الذي لا أجرؤ أن أديره، لكي لا أسمع صرخة سوداء تنطلق من فم سكرتيرتي وهي تتقلب بعماء فوق بطن وغابة شريكي.

انحنت زوجتي فوقي. سألتني أتحبّني؟ أحبّك، بصقت في مقلة عينها. سأثبت لك ذلك، سأثبت لك ذلك، هل هناك دليل آخر، هل بقي هناك أي دليل، هل بقي دليل لم أقدمه بعد. لقد قدمت جميع البراهين. (من ناحيتي، قررت أن استخدم خدعة مراوغة وأكثر مكراً) هل تحبينني، كان ردي عليها.

طاولة كرة الطاولة ملطخة بالوحل. يداي تلهثان كي ألتقط الكرة. ابناي يتفرجان. يهتفان تشجيعاً لي. كان صوتهما مرتفعاً لكي يعبّرا عن ولائهما وإخلاصهما لي. تتملكني الحماسة. أتابع بضربات متلاحقة، أناور، أخادع إلى أقصى درجة. ألعب الكرة بأنفي. يهتفان بقوة تشجيعاً للجهود التي أبذلها. لكن شقيق زوجتي ليس مغفلاً. يردّ الضربة، يضرب ثانية، أنزلق، أتعثر، أحدّق دون أن أرى شقّ مضربه.

أين مطارقي، براغيّ، مناشيري؟ كيف حالك؟ سألني شريكي. هل الضماد ملفوف في مكانه الصحيح؟ وهل العقد مربوطة بإحكام؟ صفق الباب. أين كنت؟ في المكتب أم في البيت؟ هل دخل أحدهم عندما خرج شريكي؟ هل خرج؟ هل كان الصمت هو الذي سمعته، هذا العراك، الصرير، الصراخ، الأنين؟ أحدهم يصبّ الشاي. فخذان ثقيلتان (ويندي؟ زوجتي؟ كلتاهما؟ منفصلتان؟ معاً؟) رشفت السائل. طبيبي حيّاني بدفء. بعد دقيقة، سنزيل تلك الضمادات أيها العجوز. هيا تناول فطيرة. اعتذرت. الطيور في حمّام الطيور، دعا زوجته البيضاء البشرة. هرعوا جميعهم لينظروا. ابناي قذفا شيئاً. أحدهما؟ بالتأكيد لا. لم أسمع ولداي من قبل وهما في هذه الحالة من البهجة. كانا يدردشان، يضحكان، يناقشان عملهما بحماسة مع خالهما. كان أبواي صامتين. الغرفة تبدو صغيرة جداً، أصغر مما أذكر. كنت أعرف مكان كلّ شيء فيها، كلّ صغيرة وكبيرة. لكن رائحتها تغيرت. ربما لأن الغرفة كانت مكتظة بأشياء كثيرة. انفجرت زوجتي في نوبة من الضحك، كما كانت تفعل في أيام زواجنا الأولى. لماذا كانت تضحك؟ هل قال لها أحد نكتة؟ من؟ ولداها؟ شيء بعيد الاحتمال. كان ابناي يناقشان عملهما مع طبيبي وزوجته. سأكون معك بعد دقيقة أيها العجوز، قال لي طبيبي. في هذه الأثناء، كانت توجد مع شريكي المرأتان شبه العاريتين فوق سرير مريح. أي الجسدين أكثر امتلاء؟ نسيت. التقطت كرة الطاولة. كانت صلبة. أتساءل أي جزء من المرأتين قد عراّه. النصف العلوي أم النصف السفلي؟ أم لعله الآن يرفع نظاراته ليتطلع إلى ردفي زوجتي الممتلئين، وإلى ثديي سكرتيرتي العارمين. كيف يمكنني أن أعرف ذلك؟ بالحركة، باللمس. لكن هذا شيء بعيد الاحتمال. وهل يمكن أن يحدث ذلك أمام عيون طفليّ؟ هل سيواصلون الدردشة والضحك، كما كانوا يفعلون مع طبيبي؟ هذا أمر لا يحتمل. في جميع الأحوال، كان من الجيد أن الضمادة في مكانها والعقد مربوطة بإحكام.


________________________________
مترجم سوري مقيم في نيويورك

[email protected]

 
كيكا

 

 
 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي