علي حرب ينقد الصادق النيهوم في كتابه «الإسلام في الأسر»

2021-01-09

إبراهيم مشارة


ترك الكاتب الليبي الصادق النيهوم (1937/1994) الذي عاش عمرا قصيرا على عادة النوابغ، الذين يلمعون كالشهاب ثم يختفون فجأة من مسرح الحياة، ولكن بعد أن يهزوا إليهم بجذع نخلة الفكر والحياة معا، فتساقط علينا لا رطبا جنيا فقط، ولكن بروقا وعواصف في واقع عربي هو في حالة حطام مفتوح بتوصيف الراحل الطيب تيزيني. وكتاب النيهوم الذي لاقى شهرة وسمعة طيبة بين قراء الفكر وعشاق الإشكاليات هو كتاب «الإسلام في الأسر». وقد أثار في هذا الكتاب كثيرا من الإشكاليات، وقدم قراءة جديدة للإسلام، كان قد تناولها كذلك علي شريعتي وعلي الوردي الأول في كتاب «دين ضد الدين» والثاني في كتاب «وعاظ السلاطين» إذ ما يقدمه النيهوم وما يفكر فيه هو الدين كنصوص مؤسسة، والدين كواقع معاش، وعلاقة ذلك بالواقع السياسي والفكري والاجتماعي، وكيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه من حالة الحطام المفتوح، مع وجود رسالة إسلامية عالمية الخطاب، تقدم نفسها على أنها خلاص الإنسانية برمتها.

مقالات صادمة

وفي الكتاب جملة من المقالات الصادمة، بدءا بالعتبات الأولى ـ العنوان ـ للعقل المسلم التقليدي والتنويري معا، كمقالة «قواعد الإسلام ليست خمسا» و«ثقافة على ورق» و«شريعة الراعي بلغة الخروف» «الصلاة المسروقة» «يا خراف الوطن العربي اتحدوا» وفهمه لوظيفة المسجد في الإسلام، وفريضة الجمعة، بل إن العتبة الأولى للكتاب وهي العنوان «الإسلام في الأسر» ثم العنوان الفرعي «من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟» تحيل على حقائق الإسلام المغيبة، أو المطموسة، أي الجوهر الذي لم يتمظهر، والمظهر الذي لا يتطابق مع الجوهر، وهي إشارة ضمنية إلى إسلام ماهوي قبلي فطري، تمت السيطرة عليه وأدلجته لصالح إكليروس ديني، وطبقة سياسية مهيمنة، اتفقتا على سجن الإسلام لاعتبارات مصلحية تتصل باستراتيجة السيطرة والإخضاع.
وقد تناول هذا الكتاب علي حرب في كتابه «نقد النص» كما تناول جملة من المفكرين الكبار، موافقا معجبا بهم حينا، وناقدا لهم في أحايين كثيرة، فقد تناول حسن حنفي، محمد أركون ومحمد عابد الجابري ومحمد عمارة ونصر حامد أبو زيد، ما يعطي لهذا الكتاب قيمة كبيرة ككل كتب علي حرب، الذي يصطنع منهجا تفكيكيا في القراءة، ينتهي إلى نتائج خطيرة تصطدم القارئ، الذي اعتاد على القراءة التبجيلية للكتابات الإسلامية، أو القراءات المؤدلجة حسب تعبيره.
علي حرب الذي يعلن قراءة للإسلام كما يفهمه ويمارسه حيث (كل واحد يمارس إسلامه الذاتي باختلافه عن الإسلام المختلف أبدا عن ذاته، باختلاف ممارساته والكلام عليه) وهو يقول كذلك: (إن حقيقة الإسلام ولأقل هويته ليست شيئا جاهزا يكتسب بصورة نهائية، وإنما هو مركب يجري تشكيله وإعادة إنتاجه باستمرار). وبهذا الفهم للإسلام يجري الكاتب قراءة تفكيكية لكتاب النيهوم الآنف الذكر.
ولا شك في أن النيهوم في قراءته الثورية لقواعد الإسلام، التي يريد ربطها بالسياسة أو الإمامة، كما يقول الشيعة، هو يجاريهم في هذا الطرح ويختلف معهم في كونها لا تخص نسل فاطمة ـ رضي الله عنها ـ ولو دعاه ذلك إلى لي عنق حديث صحيح عن قواعد الإسلام ،إنه لمن الثابت كما يتحدث النيهوم عن احتكار بني أمية للحكم، وجعله وراثيا، وما أعقب ذلك من مآس وكوارث وفساد، والشيء نفسه مع بني العباس، وفي كتب التاريخ الصفحات تترى عن القتل والنهب والقمع والفساد والإفساد معا، فالإسلام الذي سجن في طقوسه وفي جامعه، ويلاحظ القارئ أن الكاتب يعدل عن كلمة مسجد، إلى كلمة جامع لما في الكلمة من مضامين الجماعة، فالإسلام دين للخلاص الجمعي، وليس الفردي، غاب الجامع بقيمه التي هي مناط الاجتماع ولعل أهمها الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، يقول النيهوم: (لأنه وقع منذ أربعة عشر قرنا الزلزال، وشهد ميلاد صيغتنا الديمقراطية الحقيقية، التي تمثلت في تسليم السلطة لله، والإدارة للناس عن طريق الشورى المباشرة في الجوامع) ففريضة الجمعة مثلا حمّلها أكثر مما تطيق، وأراد أن يجعلها منبرا سياسيا ومنبرا شوريا، يريد أن يلغي بها المؤسسات السياسية كالبرلمان مثلا، وهي نكتة على حد توصيف علي حرب، وليسمح لي علي حرب بأن لا أدعوها نكتة بل كبوة – ولكل جواد كبوة ـ يقول النيهوم: (إن نظام الجامع مثل نظام الأحزاب، صيغة إدارية لتحقيق سلطة الجماعة) إن التجارب التي عشناها في العالم العربي، من فوضى المنابر، ومن الصراعات داخل المساجد، حتى تحولت المساجد إلى بؤر للمتابعة الأمنية ناهيك من الشجار والعنف أحيانا، فكيف يستقيم الأمر مع الطرح الذي يقدمه النيهوم؟

إن الاختلاف بين النيهوم وعلي حرب هو في النظر إلى الوجود وغاياته، أي جدلية الثنائيات: الغيبي والعقلاني، القدسي والدنيوي، والسماء والأرض، والعبد المؤمن والمواطن، الحلال والصحيح، الحرام والخطأ، ففي حين يغلب علي حرب الثاني يميل النيهوم إلى الأول.

يقول علي حرب منتقدا فهم النيهوم للشورى الجماعية في الجوامع: (الشورى على ما مورست وحيث مورست، إنما مارسها دوما أهل الحل والربط من الساسة والعلماء) ولا شك في أن علي حرب لا يريد للجامع مثلا دورا غير دور العبادة والتعليم، بالمفهوم الذي تقدمه الحداثة الغربية والعلمانية لدور العبادة، فالمسجد في الصميم منبر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي الدعوة الصريحة والمستميتة إلى قيم الإسلام من حرية وعدالة ومساواة، ومدى تمثلها في واقع الناس، فالإسلام للناس وليس للفرد وحده، وهذا ما نراه غائبا عن منابر مساجدنا، حتى غدا بصدق مثلما وصف النيهوم مجرد دور لعبادة روتينية، يغلب عليها الطابع البلاغي والاستعراضي للفصاحة والملل، من قبل رواده ولو كانوا في أبهى حلة وهم يرتادون الجامع يوم الجمعة تلبية لندائها.

ديمقراطيتنا الخاصة

أما الديمقراطية حسب النيهوم فهي بضاعة غربية، لا علاقة لها بواقعنا فالديمقراطية الغربية جاءت من الرأسمال والعمال والصناعة، وهذا ما يفتقده المسلمون، فالديمقراطية الإسلامية التي يدعو إليها النيهوم، حسب علي حرب تحققت في عهد النبي وخليفتيه: (لنا ديمقراطيتنا الخاصة التي طبقها المسلمون الأوائل، وفي هذا ما فيه من التزييف أو التلفيق فضلا عن الجهل بحقيقة الديمقراطية).
وفي النهاية إن الاختلاف بين النيهوم وعلي حرب هو في النظر إلى الوجود وغاياته، أي جدلية الثنائيات: الغيبي والعقلاني، القدسي والدنيوي، والسماء والأرض، والعبد المؤمن والمواطن، الحلال والصحيح، الحرام والخطأ، ففي حين يغلب علي حرب الثاني يميل النيهوم إلى الأول. وعلي حرب الذي يواصل منهجه التفكيكي، مستخدما مبضعه النقدي الجديد في النصوص المؤسسة للإسلام، والنصوص الشارحة له، قطع بنا أشواطا بعيدة، وكنا نظن أننا أحوج إلى روشتة واضحة لمختلف أدوائنا، كما وصفها لنا الجابري أو زكي نجيب محمود أو حسن حنفي، فإذا بعلي حرب يدعونا إلى تفكيك النصوص المؤسسة بكل جرأة – حتى لا نترك مسمارا ولا برغيا – ونخشى من منهجه هذا الذي يبدو أحيانا نقدا تفكيكيا مخمليا، أو تهويما فكريا ترفيا، يثبط إرادتنا، ويزيد في حيرتنا، ناهيك من ضياعنا، ونحن في غنى عنه فلا ينسجم مع طروحاتنا الفكرية ولا أهدافنا الحضارية، وأحسبه بعد لأي سوف يغدو تاريخا لا غير. فهو يقول صراحة: (لن يكون ذلك إلا بالخروج من حال القصور، أي بالتحرر من العقائد والأيديولوجيات التي تصادر العقل وتعطل الفكر).
وهذا وهم كبير فكيف يتحرر المرء من العقائد ومتى كان ذلك؟ إن الحرية في البحث وفي الفكر وفي الحياة، التي يدعو إليها حرب هي أمر ضروري، ولكنها في الإسلام مشروطة بالقراءة المقاصدية، التي تخضع الوجود الإنساني لمفهوم الاستخلاف، لا مفهــــوم الناسوت المتأله، كما يعتقد علي حرب. وهو يرى أن الكاتب ـ أي كاتب ـ يمارس حين يكتب الحجب والتعمية والطمس، فإحدى الاستراتيجيات التي يجنح إليها بوعي منه، أو بغير وعي، هي إرادة السيطرة وممارسة سلطة الكتابة وسلطة الإفهام والتفهيم، وهذا حال الإنسان كما خلقه الله ـ ولا قبل لنا بتغييره – ومع ذلك فأنا أريد أن أتحرر من سلطته بممارستي النقدية له مع إعجابي بما يكتب ولكن إلى حد.

كاتب جزائري*







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي