رواية «الطيور الحمراء» للباكستاني محمد حنيف: نقد لاذع للسياسة الخارجية الأمريكية

2021-01-08

لينا شدود*


في مقابلة أجرتها الصحافية البريطانية كلير أرميستيد يقول الروائي الباكستاني محمد حنيف «لتتمكّن من إعطاء رأيك بالسياسة في باكستان عليك أن تكون خارج البلاد».
كان حنيف يعيش في لندن، ويعمل صحافيا حينما نُشِرت روايته الأولى «صندوق المانجو المتفجرة»؛ الحائزة جوائز عدة. ولكنه عاد واستقرّ في كراتشي بعد حدوث الهجمات على مركز التجارة العالمي، التي بدورها أجبرت الغرب على مواجهة العواقب المثيرة للحروب. الآن وبعد عودته إلى كراتشي، يناقش حنيف التهديدات التي واجهها ولماذا يستمر في التحدث عنها علناً وبدون خوف.
إنهم يضعون الآن شرائح نظام تحديد المواقع العالمي في الحيوانات الأليفة والطيور المهاجرة، هل يعقل أن يتوه شخص ما يحلّق في آلة تبلغ كلفتها خمسة وستين مليون دولار؟
بهذه الكلمات التي صرّح بها طيار أمريكي تحطمت طائرته في صحراء مجهولة، خطّ محمد حنيف وجهة نظره الخاصة في الصفحات الافتتاحية لروايته الجديدة. إنها مناورة نموذجية وجريئة من كاتب ساخر، كان هو نفسه طياراً سيئاً للغاية في ما مضى. كما أن عمله هذا مليء بالإشارات إلى العتاد العسكري.
حلّت روايته «صندوق المانجو المتفجّرة» في القائمة الطويلة لجائزة البوكر؛
التي تروي كيف وضِعَت سلة من ثمار المانجو المتفجّرة في عربة كانت على مقربة من الرئيس الباكستاني ضياء الحق. روايته الثانية كانت عن ممرضة الدير المفعمة بالحياة، التي تزوجت على متن غواصة نووية. بدا حنيف ساخراً ولو أن رسالته السياسية في رواياته أورويلية، فيما ترتكز جلّ أعماله على أن العالم فاسد ومحاصر باستمرار.
«أعتقد أنني كنت في المدرسة لمّا اندلعت الحرب الأفغانية، وهكذا نشأنا في خضم ذلك النوع من الصراعات، ومن ثم بدأت تتكاثر في العالم، وأبداً لن تنتهي تلك الحروب والنزاعات، بل سينتقل التركيز من مكان إلى آخر فقط». هذا ما قاله الروائي والصحافي والكاتب المسرحي محمد حنيف الذي بلغ الثالثة والخمسين من عمره. حرب لانهائية هي الخلفية الرئيسية لرواية «الطيور الحمراء» وإن توقف القصف فسيكون ذلك بسبب ظروف غامضة. يُنقَل الطيار المفقود الرائد إيلي إلى مخيم للاجئين من قبل الفتى مومو، الذي يعثر عليه بينما كان يجوب الصحراء بحثاً عن كلبه الجريح. الفتى مومو هو من أكثر شخصيات الكتاب إشراقاً، هو ذلك المراهق الذي يعمل وكيل إعلانات، ويقود جيب شيروكي تحمل شعار الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. ومصمم على إنقاذ شقيقه الأكبر الموجود في قاعدة عسكرية مشؤومة، تُعرف بحظيرة للطائرات. يقول حنيف: «يتساءل الناس عن مكان حدوث الرواية، وأجيب إنها تحدث في رأسي». ولو أن حنيف كان يأمل في أن يكتب رواية لا مكان للأحداث السيئة فيها. «أعرف أناساً كثرا سعداء في حيواتهم، ويقومون بأعمال فاضلة أو يؤمنون أن ما يفعلونه هو أشياء جيدة».
ولد حنيف في ريف باكستان، ونشأ في كنف أبوين لا يتقنان القراءة والكتابة، ولكنهما كانا يعتبران، في مجتمع كهذا كمَعين للحكمة، وهذا هو ما كانت ترمز إليه الطبقة الوسطى في بيئة كهذه. «في محطة المترو أنت لا تقدم عنواناً، بل اسماً». وبوصفه الابن اذي حقّق إنجازات كبيرة بالنسبة لعائلة زراعية، فقد كان السبب في دخول والده للمرة الأولى في حياته إلى مدرسة، من أجل حضور حفل توزيع الجوائز، بمناسبة فوز حنيف بجائزة، وكان أحد الأطفال الستة المكرّمين في المدرسة. «كنت حينها في الثامنة أو التاسعة من عمري، وأعتقد أن والدي كان فخوراً بي بعض الشيء سرّاً».
بداية ذهب حنيف إلى مدرسة ثانوية حكومية، ولكنه غادرها وانتقل إلى المدينة الكبيرة في الخامسة عشرة من عمره، وبعد عام وقّع عقداً لمدة ثمانية عشر عاماً مع القوات الجويّة الباكستانية بعد اكتشافه إعلاناً للتوظيف في الصحف.
وظّفته القوات الجويّة في مجال إلكترونيات الطيران، وعرّفته إلى شرائح أخرى من المجتمع الباكستاني، والأعراق كالمناطق الحضرية والريفية الفاخرة والفقيرة. المشكلة الوحيدة أنه ثَبُت له أنه ليس مؤهّلاً لقيادة طائرة.

يقول حنيف: «حقاً كنت ماهراً في الإقلاع، ولكن عليك أن تهبط بالطائرة بأمان أيضاً. تحديداً في مجال الطيران، عليك أن تنجز الأمور بسرعة بالغة في حين أنني أفضّل أن أفكر مليّاً في الأشياء». بعد أن بدا جليّاً أنه لم يكن ميّالاً للخدمة العسكرية لذا أطْلق سراحه قبل عشر سنوات من انتهاء خدمته، لينتقل في ما بعد إلى الحياة المدنية، بين الساسة الصغار ورجال الأعمال والعصابات المتصارعة.

أغلب أصدقاء حنيف كانوا مدمنين على المخدّرات. وكان لا يتوانى عن مساعدة أحد أصدقائه الذي يعمل مراسلا لصالح مجلة على الخروج من حالة التوتر الشديد التي تعيقه عن أداء عمله. لاحقاً انتقل حنيف للعمل في مجلة «نيوز لاين» السياسية، وهناك التقى برئيسة التحرير، التي يعزو إليها الفضل في تحوله من صحافي درجة ثانية إلى روائي.
يقول حنيف: «علمتني رضية بهاتي قيمة الجملة الجيدة، وأن الأمر ليس مجرد طرح قصة مخزية». وفي إحدى المرات أنقذت بهاتي حياته حينما رفضت إعطاء عنوانه لعناصر الشرطة، الذين اتصلوا بها في الثانية صباحاً بحثاً عن المراسل الذي كان وقحاً بشأن سياسي محلّي، وكرد جميل لها جعل من اسمها عنواناً لروايته الثانية «سيدتنا أليس بهاتي» التي نُشرت عام 2011. وممّا يتذكره لاحقاً أن اعتقالات منتصف الليل، لم تكن الخطر الوحيد في ذلك الوقت في كراتشي، إذ كان يتمّ اختطاف الناس فقط من أجل بضعة آلاف من الروبيات، كما أن سرقة السيارات كانت متفشية أيضاً.

في عام 1996 تزوج حنيف من الممثلة نمرة بوتشا، ووافق على وظيفة في هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» وعمل في قسم اللغة الأوردية في لندن.
«كنا نعتقد أننا سنمكث سنتين فقط، ولكننا بقينا خمس سنوات، ومن ثم عشر سنوات، وحينها كان لدينا رهن عقاري ورزقنا بطفل». في الوقت الذي كانت فيه بوتشا تدير مقهى في جنوب لندن، وتعمل ممثلة، كان حنيف يعمل على كتابة روايته الأولى. يقول: «ولكن بسبب وظيفتي وابني كان التوقف ضرورياً». لذلك ارتأى أن يأخذ استراحة، وأن يسجل في جامعة إيست أنجليا كي يحصل على درجة الماجستير، وهكذا صار يسافر مرتين في الأسبوع من لندن إلى نورويتش. «ومن ثم أدركت أن ليس هناك ما يخجل في كوني كاتباً مناضلاً، ولذلك عدلْت عن كوني خجلاً ومتكتّماً على الأمر». حينما ثبتَ نفور الناشرين الباكستانيين وعدم استعدادهم لتبنّي رواية «صندوق المانجو المتفجّرة» التي تسخر من ديكتاتور عسكري مهووس ويؤمن بالخرافات، ومصاب بالديدان الشرجية. قام حنيف ببيعها إلى دار نشر راندوم هاوس الهندية، التي خطّطت بدورها لتصدير بضع نسخ منها خارج الحدود، ولكن سرعان ما أصبح جليّاً أن للكتاب جاذبية أكبر.
حصدت الرواية جائزة الرواية الأولى في الكومنولث، وقد استُدعي من قبل لجنة تحكيم جائزة البوكر لعام 2008، كما أنها تصدّرت القائمة القصيرة لجائزة الكتاب الأول لصحيفة «الغارديان». ومن ثم تبوأ حنيف منصب رئاسة قسم اللغة الأوردية في إذاعة «بي بي سي» البريطانية. «كان عملاً ممتعاً في الإدارة المركزية، ولكنني لا أعتقد أنني كنت جيداً في إدارة الناس».
ومع اقتراب بلوغ ابنهما سن المدرسة الثانوية، قررت العائلة العودة إلى كراتشي في عام 2008، حيث وجدوا أصدقاء لهم يترقبون وصولهم بخوف،
كثيرون منهم قالوا لي: «ما الذي كتبته؟ غير أنني كنت متأكداً أنهم كانوا متخوفين. ولو أن الجنود في الجيش الباكستاني لا يقرؤون الكتب، ولاسيما الروايات». ورغم ذلك لم تردعه مخاوف أصدقائه. يستذكر حنيف حياته الماضية كرائد إعلامي يكتب باللغتين الإنكليزية والأوردية. كان حنيف يجول في أنحاء المدينة رفقة كلبه فقط كحماية له، في حين أن الآخرين كانوا يخشون الخروج من دون أسلحة أو حرّاس شخصيين.

أغلب أصدقاء حنيف كانوا مدمنين على المخدّرات. وكان لا يتوانى عن مساعدة أحد أصدقائه الذي يعمل مراسلا لصالح مجلة على الخروج من حالة التوتر الشديد التي تعيقه عن أداء عمله.

يقول حنيف: «كنت أعلم أنني إذا خرجت ليلاً رفقة كلبي، لن يقترب مني أي إرهابي أو شرطي أو سارق، وكتكريم لرفيقه الكلب ابتكر شخصية الكلب مات المهجّن الخارق الذكاء، والسارد في رواية «الطيور الحمراء». في عام 2013 زاد حنيف من حدّة التوتر بقيامه بجمع شهادات حول الاختفاء القسري في إقليم بلوشستان في كتاب موجز بعنوان «البلوش الذي لم يعد مفقوداً» وقد نشِر العمل من قبل لجنة حقوق الإنسان في باكستان. يقول حنيف: «وصلتني بعض التهديدات البسيطة، إذ تلقّى أخي ذات مرة اتصالاً يُسأل فيه عمّا هي مشكلتي؟ أيضاً، زميل سابق لي في القوات الجويّة نبّهني إلى أن أكون حذراً».
بعد مضيّ عامين انقلبت الأمور إلى الأسوأ، خاصة حينما تمّ إلغاء حدث نُظّم في جامعة كبيرة وعريقة في لاهور عن المختفين قسريّاً، بعد تحذيرات وصلتنا من جهاز الاستخبارات السرّية. فقرّرت صديقة حنيف سابين محمود أن تنظّم الحدَث في مكتبة مقهاها الصغير في كراتشي.
يقول حنيف: «كان ثمة خوف يستولي على عقولنا، وأخبرتها كيف أن المشاعر كانت مضطرمة، لماذا إذن لم تؤجّل الحدَث بضعة أيام» يتذكّر حنيف كيف كانت سابين محمود تستطرد دائماً قائلة: «الخوف هو الخط الفاصل في رأسك وعليك أن تتجاوزه» حينها لم يكن حنيف قادراً على الحضور، إذ كان مشغولاً بالتصوير في إسلام آباد، أي على مسافة 900 ميل عن الحدث، ولذلك اكتفى بمتابعة الإجراءات عبر التويتر من غرفته في الفندق. «حينما انتهى الحدَث كنت مرتاحاً للغاية» ويتذكر حنيف أنه لمّا نزل إلى موقف السيارات ليجلب سيارته تلقّى تلك الرسالة. «لقد تمّ إطلاق النار على سابين محمود من مسافة قريبة، وهي تقود سيارتها مبتعدة بعد انتهاء الحَدَث، وتوفيَت على الفور».
يقول حنيف: «لا أعتقد أنني أو أيّا من زملائي قد تعافينا من تلك الطلقة بعد».
ومنذ ذلك الوقت توقف عن الظهور على التلفزيون، تحت ضغط من العائلة والأصدقاء، وصار حنيف يحصر تعليقاته السياسية لوسائل الإعلام الأمريكية إلى حدّ كبير. «نحن الآن في الحالة التي إذا ما كنت ترغب الكتابة في السياسة فعليك أن تفعل ذلك خارج باكستان، ولكن من الضروري أن يكتب عنها الناس في باكستان أيضاً. سابقاً كنت قادراً على القيام بذلك، وكان المحرّرون يطبعون ما أكتب مغامرين بحياتهم، وفعلاً كانوا يواجهون الكثير من المتاعب».
والجانب الإيجابي الآن هو أن قرار نشر رواية «صندوق المانجو المتفجّرة» باللغة الأوردية في العام المقبل قد اتُخِذ.
كما أن دار أوبرا بيتسبرغ الأمريكية، ستجعل العرض الأول هو لأوبرا تدور حول سلالة بوتو الباكستانية الحاكمة، وسيكون هذا تعاون حنيف الثاني مع الملحن العربي الأمريكي محمد فيروز. رواية «الطيور الحمراء» هي ذاتها أوبرا القاعات السياسية المشحونة للغاية. قسوتها الحقيقية تكمن في تلك الثنائية بين الطيار والباحث الميداني في ذلك العام المثالي المسمّى، بمنظمة الإغاثة الدولية. كما يصرح الرائد إيلي بأسلوب صادم. لو لم أقم أنا بقصف مكان ما فكيف ستقوم تلك المنظمة بإنقاذه؟» و«إن لم تنهمر النيران من السماء فمن سيحتاجها لإخماد تلك الحرائق على الأرض؟». ما حاجتك لأن يرمي أحدهم البطانيات على الأطفال المحترقين، لو لم يكن هناك فعلاً أطفال مصابون.
حتماً أنت بحاجة إلى الألعاب النارية لتلهب الخيال البشري.
نُشِرَت رواية «الطيور الحمراء» للباكستاني محمد حنيف من قبل دار بلومزبري.

 

*كاتبة من سوريا







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي