حكايات الجدات والأمهات أدب شعبي مهدد بالنسيان

2020-12-05

سندباد قصص عربية في إنتاج عالمي

نضال قوشحة*

كما في أي مستحدث إنساني، يمكن أن يقدم الفائدة وكذلك الضرر، فلا شك أن عصر الإنترنت قد قدم العديد من الفوائد التي سهلت عمل الناس وطرق التواصل في ما بينهم. لكنها في الآن ذاته خربت أو تكاد بعض أوجه الحياة. منها أدب الأطفال الذي صار في موقع بائس في عصر الإنترنت مع طغيان الألعاب الإلكترونية.

عاش معظم الناس في العالم طقسا إنسانيا لا يمكن أن ينسى، عندما كانت الأمهات والجدات يروين الحكايات لأطفالهن أو أحفادهن قبل النوم. وكانت الحكايات شكلا أدبيا يتم نقله وتواتره عبر الناس جيلا بعد آخر. حضرت في هذه القصص حكايا الخيال والسحر والحكمة، وغيرها من العوالم المثيرة والتي باتت مهددة بالنسيان كلما تقدمنا في الزمن.

وفي أزمان متأخرة حاول بعض صناع الأدب جمع تلك الحكايات الشعبية المتوارثة، وجعلوا منها كتابا موثقا. لكن ما زال البعض من الناس ينظر إلى الأطفال وعوالمهم النفسية والأدبية على أنها هامشية وليست على قدر أهمية مواضيع الكبار الذين هم أكثر أهمية وجدوى في الحياة.

علامة فارقة

تكفي نظرة بسيطة للتأكد من أن أدب الأطفال يمثل علامة فارقة في حياة البشرية، خاصة لو تم استثماره بشكل دقيق. لن نذهب بعيدا، ففي مثال عصري هام سنجد أنه حقق حضورا طاغيا في هذا الاتجاه، يمكننا استحضار سلسلة كتب هاري بوتر للكاتبة البريطانية ج. ك. رولينغ. فحسب لغة الأرقام الحيادية، تخبرنا بأن هذه السلسلة بدأت بالصدور عام 1997 وحمل الكتاب الأول عنوان “هاري بوتر وحجر الفيلسوف” وحقق نجاحا كبيرا في العالم وسرعان ما صدر كتابان آخران عن السلسلة في عامين متتاليين.

في عام 1999 أصبحت الكاتبة رولينغ رمزا عالميا للأدب عندما حصلت الأجزاء الثلاثة الأولى للسلسلة حسب تصنيف مجلة New York Times على مرتبة أكثر الكتب مبيعا في العالم. وفي منتصف عام 2000، صار الكتاب الرابع في السلسلة صاحب صفة أسرع الكتب بيعا في التاريخ.

كانت مبيعات الأجزاء الثلاثة الأولى له قد بلغت حينها ما يقارب النصف مليار دولار. وطبع من الأجزاء الثلاثة 35 مليون نسخة وترجم إلى 36 لغة عالمية. عندما صدر الكتاب الخامس من السلسلة عام 2003 بلغت مبيعاته في أميركا وخلال أول يوم من مبيعاته 6.9 مليون نسخة. واعتبرت أكبر افتتاحية بيع كتاب في التاريخ.

بفضل هذا الكتاب بأجزائه السبعة صنفت مجلة فوربس كاتبته بأنها أول امرأة تصبح ثرية من خلال مهنة الأدب، وصارت من أغنياء العالم. هذا الأثر الأدبي الموجه للأطفال وبأجزائه السبعة تحول إلى أفلام سينمائية وكان عددها ثمانية. بدءا من عام 2001 حينما صدر الجزء الأول وعرض في أكثر من ثمانية آلاف صالة في أميركا وحقق مرابيح مالية وصلت إلى 93 مليون دولار. وبفضل الكتاب نالت كاتبته الكثير من الجوائز الأدبية وحملت العديد من الألقاب العالمية.

ثلاث مراحل

هاري بوتر قصة نجاح مبهرة لأدب الطفل

لم يجمع المختصون على وضع تعريف محدد لأدب الأطفال، فوجدوه نوعا من الفن يشمل أنواع القصص والأساطير والشعر وكذلك المجلات والكتب، وهو في الغالب مصحوب بالرسوم التي تغني الموضوع وتثير جاذبية الأطفال واليافعة.

وعبر تاريخ الإبداع الإنساني ظهر أدب الأطفال بأشكال عديدة، كان أولها الشعر، وظهر من خلال الحكايات والأساطير التي تم تناقلها عبر الأجيال من خلال الأدب الشفوي المحفوظ أو من خلال الأدب المكتوب. وكان الهدف الأهم منه نقل الحكمة والمعرفة إلى جيل الأطفال من خلال تكثيف شعري أو قصصي بسيط يصل إلى تلك الفئات العمرية بسهولة.

وقد راجت في معظم بقاع العالم مجموعة كبيرة من الخرافات والأساطير والأشعار التي كانت موجهة للأطفال، ثم قام بعض الكتاب في أوقات متأخرة بجمعها وتصنيفها وإصدارها في مجموعات أدبية خاصة، وبسبب التقدم العلمي وتطور أساليب الطباعة والنشر راجت هذه الآثار الأدبية وانتشرت عبر العالم وصارت في مكان متقدم من الأدب العالمي الحديث.

يقسم المختصون مراحل تطور الأدب العالمي المعني بالأطفال إلى ثلاث مراحل بعد مرحلة التدوين والنشر. أما مرحلة ما قبل التدوين فكانت في العصور القديمة وكان فيها الأدب الشعبي الشفهي في حكايات الأساطير والخرافات والأشعار القديمة التي تناقلها الناس جيلا بعد آخر عبر مئات السنين.

وجاء عصر التدوين وبدأ الكتّاب يؤلفون أدبا خاصا بالأطفال، وكانت البداية بصدور الأثر الأدبي “حكاية أمي الإوزة” الصادر عام 1697 للشاعر الفرنسي تشارلز بيرو، متضمنا مجموعة كبيرة من الحكايات الشعبية التي كانت منتشرة في القارة الأوروبية. وترجم الكتاب إلى العديد من اللغات الأوروبية وسبب حركة نشيطة في عمليات البحث والتدقيق في أدب الأطفال.

وفي عام 1704 ظهرت ترجمة أنطوان غالان للأثر الأدبي العالمي “ألف ليلة وليلة”، الذي احتوى على الكثير من القصص الخيالية التي تلهم الأطفال، وسبب وجود هذه الترجمة حراكا كبيرا في حركة الأدب، وكانت بعض مواضيع هذه القصص كحياة الأميرات وبساط الريح والحصان الطائر مواضيع أساسية في العديد من القصص المؤلفة للأطفال في أوروبا لاحقا.

 

المختصون يقسمون مراحل تطور الأدب العالمي المعني بالأطفال إلى ثلاث مراحل جاءت بعد مرحلة التدوين والنشر

ونقطة التحول الكبرى في التوجه إلى أدب الأطفال كانت لدى الأخوين يعقوب وفيلهلم غريم في ألمانيا، اللذين جمعا معظم قصص الحكايات الشعبية التي كانت سائدة في أوروبا في كتاب ضخم صدر بين عامي 1812 إلى 1814.

وحمل عنوان “حكايات الأطفال والبيوت”. وهو الذي صار لاحقا مصدرا ملهما للعديد من الروايات والقصص العالمية الشهيرة مثل “سندريلا” و”بياض الثلج” و”الأقزام السبعة” و”ذات الرداء الأحمر” و”الأمير الضفدع”.

وفي عام 1865 نشرت في إنجلترا قصة “أليس في بلد العجائب” التي ألفها لويس كارول، التي كانت أشهر أثر أدبي مخصص للأطفال في كل أوروبا في تلك الفترة وعلى امتداد عقود من الزمن. وفي عموم أوروبا ظهر كتّاب كبار اهتموا بأدب الأطفال مثل كريستيان أندرسون في الدنمارك وبوشكين وتولستوي في روسيا.

ثم كانت المرحلة الثانية بعد الحرب العالمية الأولى. واتسمت بتقديم دراسات وأبحاث عميقة عن الأطفال ولم تقف عند حد تقديم شكل التشويق القصصي لهم من خلال بعض الحكايات التي تحتوي على معاني الحكمة والقيم الإنسانية العليا، فصار هدف الأدباء حينها سبر عوالم الأطفال وتقديم أبحاث في العوالم النفسية التي يعيشونها، كذلك في الإمكانات العقلية التي يمتلكونها والملكات الذهينة التي يتمتعون بها.

وفي هذه المرحلة بدأت تظهر اهتمامات بعض الجهات الدولية بأدب الأطفال إضافة إلى اهتمامات الدول. أما المرحلة الثالثة، فكانت بعد الحرب العالمية الثانية، وهي التي تولدت بعد الأهوال والمصاعب التي واجهها الأطفال خلال سنوات الحرب، التي شملت مساحات كبيرة من العالم، ومات فيها عشرات الملايين من البشر، وخلفت وراءها الملايين من الأطفال اليتامى الذين فقدوا آباءهم أو أمهاتهم. وهذا ما دفع الكثير من الدول والمنظمات الدولية للاهتمام بالطفل والأدب الذي يتوجه إليه.

وكانت هذه المرحلة من أكثر مراحل أدب الأطفال نضجا وازدهارا، خاصة لدى دول ما كان يسمى بالمنظومة الاشتراكية التي كانت تهدف إلى إعادة بناء إنسان ما بعد الحرب العظمى. فدخل أدب الأطفال في المناهج الأدبية ونشطت حركة التأليف والترجمة وظهرت دور النشر للكتب والمجلات، كذلك ساهمت السينما بالعمل على اقتباس العديد من آثار أدب الأطفال ونقلها إلى عالمها على شكل رسوم متحركة جاذبة.

وظهرت الكثير من التجارب السينمائية العالمية في السينما والتلفزيون التي نقلت أدب الأطفال إليها وصارت ضمن عروضها. فقدمت سندريلا والأقزام السبعة والسنافر وبياض الثلج وريمي وبائعة الكبريت وهايدي وجزيزة الكنز وغيرها من أعمال كثيرة تحوات من الأدب إلى السينما والكرتون.

تجربة سندباد العربية

أدب الأطفال ترك إرثا لا ينسى من الحكايات

من خلال قصص ألف ليلة وليلة، وعت جهة إنتاج يابانية أهمية هذا الأدب، ومقدار الخيال الذي يحتويه، فانصرفت إلى إعداد طيف من هذه القصص التي يتوهج فيها الخيال إلى أبعد درجة ممكنة، وبالتالي ضمان إيجاد حالة عالية من التشويق. فبدأت الجهة بإعداد مجموعة من الحلقات التي بلغ عددها اثنين وخمسين، تتحدث عن مغامرات الفتى سندباد الذي يهوى المغامرة والسفر.

يقنع الفتى والده التاجر المقيم في مدينة بغداد بأن يسافر مع عمه في رحلة بحرية. ويكون ذلك. ولكن مغامرات اليافع تصير أكثر خطورة وتشويقا عندما يموت عمه غرقا في البحر بحادث مع عدد من البحارة ويترك سندباد على جزيرة مهجورة بعيدة مع بعض البحارة يواجهون مصيرهم المجهول، لتبدأ رحلة التشويق والإثارة حيث يذهب هؤلاء في رحلة يتعرضون فيها إلى أهوال وأخطار السفر فيواجهون العمالقة والثعابين الضخمة وكذلك طائر العنقاء كما يصادفون بعض الأشرار الذين يحولون الناس إلى حجارة أو حيوانات.

يتعرف سندباد في الرحلة على صديقيه علاءالدين وعلي بابا وأنثى الغراب ياسمينة التي حول مشعوذ شكلها بعد أن كانت أميرة. ويركب الجميع في الرحلة بساط الريح والحصان الطائر ويواجهون الأعاصير والرمال المتحركة ويصادفون الجن والمخلوقات الغريبة.

أنتج العمل في بداية سبعينات القرن العشرين تحت اسم Arabian naito shindobatto no boken من تأليف شونيكي يوكيمورو وإشراف فني فوميو كيروكاوا وترجم إلى العربية وأنتج عام 1975 في لبنان وبث على معظم الشاشات العربية، وقد حظي بمتابعة كبيرة. ولاحقا قامت شركات الإنتاج العربية بترجمة العديد من الأعمال الفنية العالمية التي أنتجت عن أدب عالمي مخصص للأطفال.

خطر الإنترنت

لا يبدو أن زمن الإنترنت يقدم تطورا مهما في تعزيز مكانة أدب الأطفال عندهم. فرغم أنه يوفر فرصة هائلة في تخزين ثم استرجاع هذه المواد الأدبية من حيث أصلها أو الفنية كما حولتها السينما أو التلفزيون، إلا أن أجواء ما يسمى بألعاب التحريك أو الألعاب الإلكترونية التي تضج بها مواقع التواصل الاجتماعي وكذلك مواقع تحميل الألعاب تنال نصيبا أكبر من اهتمام الأطفال والناشئة.

بحسب إحصاءات العديد من الجهات المختصة العربية والدولية نجد أن معظم حالات البحث التي يأتيها الأطفال والناشئة في وطننا العربي على محركات البحث تنصرف إلى مواقع تحميل الألعاب الإلكترونية أو مواقع الفيديو لمشاهدة مقاطع فيديو قصيرة في غالبيتها ترفيهية.

وبحسب ذات الدراسات، فإن الطفل يقضي يوميا ما معدله 3 أو 4 ساعات على شبكة الإنترنت سواء من تجهيزات كمبيوتر أو من هواتف ذكية، وترتفع هذه النسبة أكثر عند مدمني استخدام أجهزة التواصل لتصل إلى ما هو ضعف أو ضعفي عدد هذه الساعات.

وفي أبحاث صحية موازية، تؤكد أن قضاء الطفل عدد ساعات طويلة أمام جهاز الكمبيوتر أو الهاتف الذكي سيؤدي به إلى العديد من المشاكل الصحية الجسدية والنفسية، فإضافة إلى تشوهات العمود الفقري والرقبة والعينين، ستكون هنالك مشاكل نفسية معقدة تتمثل في خلق حالة عزلة نفسية له عن محيطه وكذلك خلق تشويش معرفي لديه بحيث يكون معتمدا على الصورة البصرية السريعة التي لا تقدم معلومة كافية وبدقة. إضافة إلى إمكانية أن تكون خاطئة كونها غير مقدمة من جهة مؤهلة علميا، فأي شخص في شبكات التواصل هو مصدر معلومة.

كما تتسبب حالة الإدمان على الألعاب الإلكترونية إلى ابتعاد الأطفال تماما عن التراث الأدبي العالمي والمحلي، مما يخلق حالة غربة بينه وبين هذا الشكل الأدبي. وتغيب تماما الخلفية الأدبية لدى أجيال قادمة وتصبح جزءا من عملية لعب استهلاكية إلكترونية لا تنتهي. وهذا تماما ما تريد كبرى شركات التقانة الوصول إليه تحقيقا لمطامح ربحية مالية تريد تحقيقها.

 

  • كاتب سوري

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي