أيام فلسطين السينمائية .. فلتستمر العروض ولو بمشاهدٍ واحد!

2020-10-21

قرار واحد يجب تفاديه في فلسطين اليوم، هو إلغاء عروض ومهرجانات السينما

سليم البيك*

هنالك عند الكثيرين إصرار على مواصلة الحياة الثقافية بالشكل الممكن، والحد الأدنى، لمواجهة اجتياح العادات الجديدة التي رافقت جائحة فيروس كورونا، عادات ثقافية شملت الفضاءات العامة، حيث للعمل الفني مساحة لتلقيه تكون جماعيةً، من معرض فني إلى صالة سينما إلى ساحة رقص وخشبة مسرح.

لا يقتصر الأمر على الكمامة والتباعد، على لصق الكمامة بأوجهنا لتعزل أحدنا عن الآخر، وفرض التباعد فتكون للعزلة مسافة أمان، الأولى كسور يلف قلعةً، والأخيرة كخندق يحوطها. والفضاءات الثقافية هي أكثر الأمكنة اللازم فيها انكشافاً وتفاعلاً حياً بين الناس، اقتراباً بل واحتكاكاً، تحاوراً بالكلام أو الملامح أو العيون.

في أي معرض فني ينظر أحدنا إلى الناس كما إلى الأعمال، يتأمل تأملاتهم لها. في السينما ينظر إلى عيونهم لحظة انتهاء الفيلم وإنارة الصالة، إلى ما تركه الفيلم فيها من أثر، لتنكشف آراؤهم بدون كلمة منهم.

في الحفلة الموسيقية يزاحم أحدنا على موطئ قدم للوقوف بكأس انسكبَ نصف ما فيه، كالمتسارعين في لعبة «الكراسي الموسيقية». هذا كله تلاشى في زمن الجائحة.

كيف يكون الرد على ـ ولا أقول الاستجابة ـ لحالة كهذه ونحن نشهد أمامنا ويومياً التطور المريع لتغيرات عادات تلقي العمل الفني (الفيلم أساساً) بغير الإبقاء عليه بحدوده الأدنى الممكنة؟ بحدود يمكن الأخذ بها، بدون إيقاف هذه العادات، بدون إلغائها وإقصائها من حياتنا التي، بدونها، ستكون إنتاجاً ناقصاً واستهلاكاً ناشفاً وانتظاراً عبثياً لزمن الجائحة، كي يمر بدون ضمانة أن تكون المجتمعات هي ذاتها من بعده، وبدون ضمانة أن تحافظ هذه المجتمعات على عاداتها في تلقي الأعمال الفنية، جماعةً بأوجه مكشوفه وتلاحم في حضرة الأعمال (الكوع للكوع في صالة السينما) وبمشاعر تشاركية معراة بدون خجل، وبدون إرشادات «إلزامية» من منظمة الصحة العالمية، والوزارات من الصحة إلى الداخلية. بدون تلك العادات تكون حياتنا المدينية مجازاً للموت.

في فلسطين، في مدن مثل رام الله والقدس وحيفا، كان لمنظمي مهرجان «أيام فلسطين السينمائية» خيار المواصلة بعد ترددٍ واحتمال الإلغاء، رغم حالة الإغلاق التام لدولة الاحتلال في حيفا والقدس، وحالة التفشي غير المقابَلة بمستوى استشفائي معقول في رام الله.

كان منظمو المهرجان أمام خيارين، الإلغاء والبدء في حالة تعود في تلقٍ فردي للعمل الفني (للفيلم) واستهلاكي واستهتاري (كأن يشاهد أحدنا فيلماً بساعة ونصف الساعة في منزله، بثلاث ساعات يتخللها شرب وأكل وأجهزة بشاشات لا تهدأ).

الخيار الآخر كان ما اتخذوه، وهو المواصلة بالممكن، بالكمامة والتباعد، بالعزلة المضاعَفة كخيار ما قبل العدم، بالمناورة، بملاعبة الموت المديني الشطرنجَ لتفاديه، كما صنع إينغمار بيرغمان في «الختم السابع».

هنالك، ضمن المهرجان هذا الشهر، التزام بالإرشادات الصحية التي تُزيل عن ثقافة مشاهدة الفيلم في صالة السينما بعض أهم ما فيها، التشاركية. ليس هذا خياراً، فلا يمكن أن تقوم أي مناسبة ثقافية جماعية بدون هذا الالتزام، وهو للصحة العامة أساساً، كي لا يزيد التفشي وتكثر الإصابات.

هنا تكون المعضلة في حالة كهذه، نناور كي لا نتوقف أو نلغي المهرجان وقد سُحبت منه بهجته الجماعية؟ هذا سؤال رافق مهرجان فينيسيا السينمائي الذي عُقد الصيف الماضي، كأول مهرجان عالمي لم يتم إلغاؤه بسبب الجائحة، بعد حالة البرود والخيبة السينيفيليتين اللتين طغتا في الأجواء بعد إلغاء مهرجان كان السينمائي، في عز الموجة الأولى في أوروبا في الربيع. تبقى، في حالات كهذه، المناورة (لنسمها مساومة ولنسمها صموداً، لا فرق) في ظروف تبقي العمل الفني أفضل من الإلغاء، فتبقى مشاهدة الفيلم سينمائيةً (كما يجب أن تكون)، بظروف قاسية، لكن برفض الإلغاء المرجح، متى تحول من فكرة إلى تجربة، لأن يتكرر.

اختار «أيام فلسطين السينمائية» المواصلة بالمُتاح، وكان ذلك صائباً لسببين يتكاملان: تفادي فكرة إلغاء المهرجان، بدورته الحالية، وبالتالي استسهال تكرار الفعل في دورات تالية، لأسباب لا أحد يتنبأ بها، والثاني وهو الإصرار على المشاهدة «الصحية» للفيلم، التي يجب أن لا تكون في غير صالة مظلمة وبحضور جماعي، وإن كان لا بد من قدرة استيعاب نصفية وارتداء دائم للكمامة.

انتشرت، بسبب الجائحة ومنذ سيطرتها على أسلوب حياتنا الثقافي والمديني، عادات في تلقي الأعمال الفنية، مرشحة للاستمرار بعد زوال الجائحة، تعلقت كلها بالشاشة أمامنا، تليفونا ولابتوب وتلفزيونا، تفاوتت في بلادتها، من زيارات افتراضية بأبعاد ثلاثية تهريجية لمعارض ومتاحف، إلى لقاءات محزنة مكئبة على تطبيق زوم، إلى نَسخ ولصق لا ينتهي لروابط أفلام تُتاح لمشاهدة مجانية من البيت، نشيرها أكثر مما نشاهدها.

كل ذلك هوّن على أحدنا حالة الحجر التي مانزال نعيشها بشكل ما، على طول 2020، هونها، صحيح لكنه دس خلالها وفيها عادات تلقي مرجحة لأن تستمر بعد زوال الجائحة، وهذه خطورتها التي لا بد من مقاومتها بالممكن، والممكن الآن وهنا، هو أساساً التمسك بكل مناسبة ثقافية، مهرجانا ومعرضا وغيرهما، وتحييد الشاشات وسيطرتها على عاداتنا في تلقي العمل الفني.

لا يهم عدد المشاهدين الذين سيدخلون القاعة، المهم أن تستمر العروض.

كل ما ذكرته أعلاه لا يكون إلا أشد إلحاحاً إن كان الحديث عن فلسطين من ناحية، وعن السينما من ناحية أخرى. ففي حالة ما قبل الجائحة، كانت عادة الذهاب إلى السينما لمشاهدة الفيلم محصورة بمناسبات محدودة وسنوية، فتكون هذه العادة موسمية، احتفالية، متكلفة، وتخسر أجمل ما فيها، وهي تلقائية المشاهدة المتاحة يومياً. في حالة حرجة كهذه، قرار واحد يجب تفاديه في فلسطين اليوم، هو إلغاء عروض ومهرجانات السينما. فلتستمر هذه المهرجانات ولو بنسبة استيعاب 1%، فلتستمر ولو بمُشاهد واحد في كل عرض، ولو بعشرين عرضاً يومياً، لعشرين مشاهداً.

 

  • كاتب فلسطيني ـ سوريا

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي