واقعية سحرية في غير مكانها

2020-10-08

رواية «صعاليك هيرابوليس» تنسج على منوال انتُسجت عليه روايات أخرى سبقتها.

حسن داوود*

رواية «صعاليك هيرابوليس» تنسج على منوال انتُسجت عليه روايات أخرى سبقتها. إنها تعيد كتابة ما سبق أن صار مرويّة عامة لمراحل الحرب السورية: بدءا من انتفاضة الشعب السوري، وردّ النظام الوحشي عليها، بما في ذلك القتل اليومي في السجون وخارجها، والمجازر الكيميائية؛ ثم قيام «الجيش الحرّ» فالجماعات الإسلامية المتشدّدة.

بالتعاقب المتسلسل تنتقل الرواية من واحدة إلى أخرى من هذه المحطات، رغم أن بناءها قائم على التقطيع الزمني، تقدما ورجوعا. فهي تبدأ مما يفترض أن يكون نهاية بطلها، هناك من السجن القابع فيه، مستفيقا من كابوس لتعود غفوته وتأخذه إلى كابوس آخر.

من هناك إذن، من زنزانته، يتذكر الراوي – البطل أباه الذي كان يحب سميرة توفيق، من طرف واحد طبعا، وأمّه، والسينما غير البعيدة من بيته، وصديقيه جمعة الحميماتي الشجاع المتهور، لكن الشغوف بتطيير الحمام، وعروة الصديق الآخر الغجري مغنّي المواويل، وهذان الصديقان سيقضيان شهيدي الحرب، أو ضحيتيها.

أما من نجت من معاركها ومقتلاتها، فالصحافية ماريا التي لن يعرف القراء إلا متأخرين أنها نصف ألمانية نصف عربية. وأنها مقيمة هناك في ألمانيا فيما كوابيس الراوي السجين تظهرها مهتاجة شبقة على قدر ما هي ليالي زنزانته موحشة وعنيفة.

أما في ما خصّ مجرى الحياة العامة فكل ما نقرأه في الرواية سبق لنا أن عرفنا ما يشبه تفاصيله أو حتى تفاصيله ذاتها. نعلم من روايات ويوميات قرأناها تفاصيل عن حياة السجون في سوريا، كما نعلم بالتفاصيل كيف كان يعيش البشر تحت سلطة الجماعات المتشددة (منع الخروج، منع التدخين، الإكراه على ترك اللحى، إلخ).

ولشدة ما كان هذا الوصف عاديا في الرواية، وشائعا في الوقت نفسه ومتداولا، كانت تبدو الوقائع الموصوفة واقفة على باب الرواية ولا تفلح في ولوجها. أقصد أن لا شيء، في ما يروى، كان مبتدَعا من راويه. كل الشخصيات معروفة من قبل، ومعروف كل ما تقاسيه، سواء تعلق ذلك بالجماعات المقاتلة أو اختص بالأفراد.

وفي ما خصّ الصديقين جمعة وعروة كانت السمات المكونة لشخصية كل منهما سهلة المنال، وسهلة الكتابة تاليا، لمن يعرف شيئا عن عادات مجتمعاتنا (تطيير الحمام فوق سطوح البيوت، وتعلّق الغجر بالغناء، وتفلّتهم من كل قيد اجتماعي قاس، على سبيل المثال).

 

استسهل الكاتب محمد سعيد إضافة تلك الشخصية الخارقة إلى العالم، المعروفة وقائعه ومراحله من القراء. كان ينبغي، لكي تحتمل روايته وقائع خرافية مثل هذه، أن يمهّد لذلك بموازين معقّدة، قائمة على الحدس في الغالب، وليست قياساتها سهلة المنال.

هي شخصيات نمطية إذن لا تحمل بعض ملامح الاستثنائية التي قد نقع عليها حتى في كتابة السيَر.

ما يخرج عن هذه النمطية هي شخصية كان من المفترض أن تكون ثانوية، مقارنة بالأبطال الثلاثة، أو الأربعة إن أضفنا إليهم الحبيبة ماريا: هي شخصية الدرويش دالي، ذاك الذي قصد مقام عقيل المنجي في المدينة ليقيم فيه. بدا الدرويش دالي كما لو أنه أتى من لا مكان، وليستقر حاطّا رحاله في المقام الذي يلجأ إليه الأهالي تعبدا وطلبا للرحمة والمشورة.

وسريعا ما صار وجود الدرويش معْلما مكمّلا للمقام. اعتاده الأهالي وألِفوا وجوده، فصاروا، كلما عبروا من أمامه جالسا هناك، يزوّدونه بالسجائر التي يشعل إحداها من عقب سابقتها. وإذ عمد المسلحون المتشدّدون إلى تفجير المقام وهدمه، اختفى الدرويش، متواريا عن الأحداث التي انقلبت ضدّ المتشدّدين، فصاروا يقتلون، بيد خفيّة، واحدا بعد الآخر.

الدرويش دالي الذي جرى التعريف بمعجزاته لدى وصوله إلى البلدة، ومنها أنه كان يقطع النهر سابحا ويخرج من ضفتّه الأخرى غير مبتل، استعيدت خوارقه مع اكتشاف أنه هو من كان ينتقم من مفجّري المقام. كان يقتل واحدا منهم كل يوم، حسب ما روى بنفسه لبطل الرواية في الزنزانة، التي جمعت بينهما. وكان يمثل بجثث من يقتلهم، واصفا كيف انه كان ينزع الرأس من مكانه ويقطع الأطراف ليعيد جمعها بوضعية مخالفة: اليدين محل الرجلين والعكس بالعكس. في السجن كان، وهو يروي، يواصل ضحكه الهستيري، ويتناول السجائر من يد سامعه.

كان الاثنان ينتظران أن يُعدما بأمر من أمير الجماعة. وإذ اجتمع مناصرو التشدد حاملين أحجارا ليرجموا بها الدرويش دالي بعد إلقائه من برج عال، ليكون موتُه مؤكدا، خذلهم الدرويش، المقهقه منذ أن حُمل إلى أعلى البرج، فحين همّ الجلادان بدفعه عن الحافة جعل يرفرف بيديه، كأنهما جناحان، ثم ارتفع عن الأرض، وظل يرتفع في ما جسمه يعلو في السماء.

استسهل الكاتب محمد سعيد إضافة تلك الشخصية الخارقة إلى العالم، المعروفة وقائعه ومراحله من القراء. كان ينبغي، لكي تحتمل روايته وقائع خرافية مثل هذه، أن يمهّد لذلك بموازين معقّدة، قائمة على الحدس في الغالب، وليست قياساتها سهلة المنال. أما ما سبق وصوله إلى واقعة الطيران، التي سبقها تصرّف الدرويش بغرابة هستيرية، فهو على الضدّ مما كان قد أرساه من قبل. فاجأنا بتلك الإضافة على روايته، معتقدا أن هذه الزيادة قد تتمّ البناء الناقص.

٭ «صعاليك هيرابوليس» رواية محمد سعيد صدرت عن دار نوفل في 220 صفحة- 2019.

 

  • روائي لبناني

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي