"نافذة على حياتي": سيرة الأهوال كما رواها كفيفٌ مغربي

2020-10-05

عبداللطيف الوراري*

مواثيق أولى:

يُـجنس الكاتب محمد بن إدريس بلبصير عمله «نافذة على حياتي» (2020) بصريح العبارة في خانة (سيرة ذاتية)، ويضع توطئة هي بمثابة مصالحة أولية مع النفس، وإقرار لاتفاق مبدئي، وميثاق قرائي وأخلاقي في آن، بينه وبين المتلقي سيكون عبئا على مواضعات القراءة وبناء النص؛ فهو وجد نفسه «مُتورطا» في عمل كان يتبرم به أو يزدريه، لأنه كان يرى نفسه مثل سائر الناس عانى ما عانوه، ولا يريد أن يجعل من هذه «النفس الوضيعة» موضوعا يستحق أن يُكتب فيه. غير أنه أقدم على العمل تحت رغبة من الأقرباء تطالبه بإنجازه «بمحاسنه ومثالبه»، والذي حمله أكثر على إنجاز العمل والخوض فيه هو شرط «الصدق» بحسب مفهومه له؛ إذ لا يعني به صدق الخبر وحسب، بل كيفية تحليل عناصر النفس، بعد أن يعود إليها، وبعد أن يكون الحدث قد مضى، وتجاوز هو نفسه ضغط المعاناة الحسية الظاهرة، حتى إن اضطره الأمر أحيانا إلى «التعرض لجرح بعض الناس» ممن عاشوا في محيطه وتأثر بهم على نحو من الأنحاء.

وإذن، فإن المؤلف يصارح قارئ السيرة بأنه يلتزم الصدق والأخلاق، وأنه يقول الحقيقة التي عاناها وكابد أطوارها باعتباره بطل هذه السيرة، ولم ينتبه إليها إلا بعد فترة من الزمن. بيد أنه لن يتولى العمل إلا بالحكي والإملاء، أما كتابته فقد تولاها «بعض الفضلاء»، وهو ما يُقدم فرضية أولوية السرد/ الحكي على قيمة الكتابة/ النص كتجل خطابي مخصوص، وبالتالي يُفسر حضور الارتجال الطبيعي والنأي عن الزخرفة في القول والتصوير إلا في ما ندر.

انجراح الوعي

يعود السارد إلى الطفل الذي كانه، بعد أن شارف السبعين من العمر. يعود إليه بعدما عرفه حق المعرفة وسمع صوته بدقة واضحة، ولكن يُؤْثر أن يستثير فترة ما قبل النشأة الأولى، ويقدم مشاهد قاسية من بدايات القرن العشرين، تكشف عن جمود التقاليد وأعراف المجتمع القبلي – الذكوري، التي ظلتْ تتوارث من جيل إلى جيل تحت وطأة الجهل والأنانية والضياع والقهر الاجتماعي، وقمع المستعمر الفرنسي: يحكي عن الجدة خديجة التي اختطفت وهي صبية، وعن أبيه إدريس الذي كان مزواجا مطلاقا، وصاحب طبع حاد وأنانية مستحكمة، وعن أُمه التي أُكرهتْ على الزواج وهي قاصر، وحاولت الانتحار للخلاص من أذيته. وفي رحم هذه الأم عانى مما كانت تلقاه منه قبل طلاقها منه، ولا يذكر شيئا ذا بال عن نشأته الأولى حتى أفاق وعيه الناشئ على حدثين مُفْجعين: حدث موت جدته لأمه، التي أرضعته ورعت خطواته الأولى بعد انفصال أبويه؛ وحدث اختطافه بعد ذلك تحت نوبة الصراخ الشديد، ليقتلع من بيت طفولته الأولى ويعيش في كنف جدته لأبيه، التي سرعان ما تحولتْ بفضل وشمها وغنائها بالعربية والأمازيغية، وسلوكها وعبادتها وعطفها الشديد عليه، إلى مصدر قوي الأثر والفعل في نفس الطفل ومُخيلته حتى نسي كل شيء وانسلخ من الماضي كُله.

 

المرض والجهل والفقر؛ ظلمات ثلاث خيمتْ على نفسية الطفل وجعلته يئن ويعاني اكتئابا، مع عجزه عن إدراك الأمور في حقائقها: «كانت تلك الأيام التي لا أدري عددها، محطة استراحة ومدرسة تأمل بالنسبة لي، وقد علمت علم اليقين أني دخلتُ في ليل لا صباح بعد».

لكن حدث فقدانه البصر وهو ابن الخامسة، كان هو الابتلاء الحقيقي الذي أصابه وغير عالمه إلى غير رجعة؛ إذ قلب حياته الناشئة رأسا على عقب، وسرق منه روح اكتشافه العالم الذي كان يحيط به، ويستمتع بألوانه ومباهجه: «أسمع ذلك الطفل الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره، والذي فقد البصر في لمحة بصر. والذي تنوعت ألوان شقائه، والذي أعرفه حق المعرفة، وأتحدى من يعرفه أكثر مني.» وقد انطفأ نور عينيه على مشهد دم الكبش/ الأضحية في يوم عيد وهي تشخب دما، حين خرج بأحشائها إلى الغدير لتنظيفها حتى زلتْ به قدماه في الماء الملطخ بكل أوساخ أكباش الحي السكني، وسقط على وجهه: «فصاحت النسوة وفزعت جدتي فأخرجتني بعد أن غرقت بكاملي، وأنا أبكي بصراخ شديد فحملتني على ظهرها وغيرتْ لي ملابسي، فنمتُ ظهر ذلك اليوم الذي كان في الحقيقة مَغْربا لا ظُهْرا». ازداد تعلق الطفل بجدته «الموشومة» حين رأى كيف نذرت نفسها وتحملت كل شيء من أجل معافاته، لكن السبيل الذي سلكته بين راقٍ ومُشَعوذٍ كان بمثابة القضاء المبرم، ولم يجد الأطباء الذين حُمِل إليهم شيئا يصنعونه فيئسوا من عودة البصر إليه.

المرض والجهل والفقر؛ ظلمات ثلاث خيمتْ على نفسية الطفل وجعلته يئن ويعاني اكتئابا، مع عجزه عن إدراك الأمور في حقائقها: «كانت تلك الأيام التي لا أدري عددها، محطة استراحة ومدرسة تأمل بالنسبة لي، وقد علمت علم اليقين أني دخلتُ في ليل لا صباح بعد». وقد استعاض عن غياب البصر، وعن وحشة الإقامة في ليل أبدي، بحضور المخيلة وتنشيط الحافظة، وتكونتْ عنده مهارة في تمييز الأصوات، أو الأشياء بعضها من بعض بطريق اللمس، وهو يدلف إلى الحياة الجديدة ومقتضياتها، التي ربتْ فيه – مع ذلك- الشعور بالعزلة، وبتهكم الأطفال منه وشفقتهم عليه، إلا أنه وجد في أحلام اليقظة بعض العزاء.

وقد أظهر في أول عهده بالكتاتيب قوة الحافظة وسرعة البديهة، غير أن سلوك الفقهاء الأربعة ممن تلقى عليهم تباعا قراءة القرآن وحفظه، كان جافا وقاسيا كشأن التعليم التقليدي في تلك الأيام؛ فرغم إخلاص بعضهم وتفانيه في أداء رسالته، إلا أن البعض الآخر كان متشبعا بمنهجية فيها الكثير من الجهالة، وكان يتعاطى الشعوذة والدجل. وقد أورثوا في نفسه جروحا مزمنة، وكان الأب نفسه يُعينهم على إيذائه: «ففي أقل الأخطاء يصب عليّ من عصاه ما لا أطيق. لا سبيل بي إلى الرأفة في قلبه. رِجْلاي ويداي ووجهي في خدش وجرح مستمرين». والأدهى أن الفقيه لـما سمع سخط الجيران، أو لوم بعض أصحابه مما يجري، يقول: «حتى أبرئ ذمتي أمام الله».

أنهى الطفل الضرير حفظ القرآن الكريم في أقل من ثلاث سنين، واستغنى عن المساعد، وشعر بأنه يحطم قضبان القفص، بل تولد عنده الشعور بالتعويض والتسامي أمام واقعة احتقار الغلمان له، أو الشعور بالغرور وزهوة النفس وهو يرى الناس يُلقبونه بالفقيه، كما تبدلت العلاقة بينه وبين امرأة أبيه من سيطرة واستعباد إلى صراع متكافئ.

مضى في الدرس لنفسه، وأقبل على متون الفقه والتجويد والنحو وحفظ منها بعض الأشعار التي تتضمنها. وضدا على رغبة الأب الذي يريد أن يجعل منه مُعلم صبيان في الكتاب، بل ـ على لسان السارد- «جلادا للأطفال، أو قارئا في المقابر، أو مدعوا للولائم ليتمتع الجُهال بحسن صوتي»، قرر الطفل ابن إدريس بعد إقناع أبيه ووساطة بعض الفضلاء أن يسافر إلى مكناس، ثُم إلى فاس للالتحاق بمدرسة المكفوفين طلبا للعلم والاستزادة منه.

كفاح ضرير

يصف السارد أياما حرجة تخللتْها ظروف الاعتصام واحتمال الجوع من أجل الكفيف وحقوقه الاجتماعية، مُحاطين هو ورفقته بتضحيات أساتذة وطنيين أكفاء، في طليعتهم الأديب محمد حماد الصقلي، يزرعون فيهم الأمل وصفحات الأدب المشرقة. وكان بطل السيرة عنصرا فاعلا في الحركة الاحتجاجية، ولم ييأس من مواصلة الكفاح لأجل الحصول على حقه في التعليم وفي الوظيفة، بل يعالج الصدمات المتتالية التي يتلقاها بالصبر والتجلد، والتأسي بآلام الآخرين من الأدباء المشهورين، والاعتبار، والنقد الذاتي، وعدم الاستسلام لليأس والفشل، بل المغامرة بعد تدبر وروية، غير أن ركوبها يصطدم بالتوبة إلى رضا الوالد وإصلاح علاقته به في كل مرة، وهو «رجلٌ أُمي أناني إلى حد بعيد، صعب الشكيمة وعسير الرضا». بعدما كلفته معاركة الأيام نحو ثمانية أعوام من المعاناة، ودروبا مختلفة من التقلبات، وهو معتصم في معقل البؤس والجوع، ينال شهادة البكلوريا، ويلتحق بكلية الآداب ظهر المهراز في فاس، التي استغرقت من عمره خمس سنوات بمتاعبها المادية وصدماتها النفسية، وكللها ببحث في النقد القديم تحت إشراف أمجد الطرابلسي، ولم يكن ينتمي إلى أي حزب سياسي، أو إطار أيديولوجي بقدر انتمائه إلى الحركة النضالية للمكفوفين على الصعيد الوطني غير مساوم أو خائن.

بيد أن الحدث الشخصي الذي عاشه في هذه المرحلة المتطورة من العمر، هو شعوره بانقلاب فكري؛ من متعاطف مع التوجه الفكري الذي كان يمثله «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» حين أحس بأنه خانهم وتخلى عنهم بعد إضراب الطلبة 1972، إلى باحث عن الخلاص من التراكمات الثقافية التي تشبع بها حتى العشرينيات من عمره، ومن الإحساس بالغربة في وسط طلابي يزدريه ويكفره – في نظره – بالدين، ثم الإحساس بالانفرادية عقب موت أبيه والانشغال بمصير أخويه الصغيرين.

من أجل تبديد حيرته الفكرية، مأخوذا بالشعر والأدب، وطموحه لكي يصير كاتبا، سوف يقرأ كتبا فكرية، ولاسيما تلك التي تتعاطى مع الإسلام بمنظور اجتهادي جديد، ليكتشف جهله للقرآن الذي يحمله في صدره.

تنغلق صفحات السيرة على خبر سعيد؛ تعيينه أستاذا للتعليم ثُم زواجه. لكنه يترك فجوات بيضاء في آخرها، ويسكت أساسا عن فترة نشاطه في ميدان الدعوة الإسلامية، وعن شهادته على ما جرى في تلك الأيام الحرون، كأنما لا يريد أن يستثير رماد الرصاص، ولا أن يجلب عبئا عليه وهو في سن الشيخوخة، وعلى محيطه الأسري الذي استطالت شجرته في الحياة.

خواص بناء السيرة

يستغرق نص السيرة الذاتية فترة زمنية مديدة؛ من اختطاف الجدة خديجة (1901) إلى حين تخرجه من الجامعة (1975)، وقد انتظمت أحداثها المتشابكة ضمن ترتيب كرونولوجي متعاقب، يكسر خطيته الصارمة بطريقتين في الكتابة: «الاستدخال» حيث يتم التركيز على «المعاناة الباطنية»، التي عاناها البطل أكثر من ظواهر الأحداث في صورها الخارجية، أو «التنويع الأجناسي» للشكل حيث جرى إدماج بعض الأشكال النثرية الموازية في نسيج السيرة من قصة قصيرة ومقال تحليلي وخاطرة وتعليق (وقفة، من بعض المشاهد، لمحة شخصية عن سي الطيب، بلوطة..)، عدا استشهاده بالأبيات الشعرية السياقية التي كتبها وليدة لحظتها، أو كانت لغيره من الشعراء المعروفين، ممن ابتلي مثله بالعمى، أو عانى معاناته الوجودية (المعري، المتنبي، امرؤ القيس، الخنساء، مطران، طرفة بن العبد)، بحيث يعيد دمجها وتأويلها داخل تجربته الخاصة.

وكثيرٌ من تلك الأحداث التاريخية المتخللة وسنوات الكفاح الشخصي، وثقها السارد بتواريخها المحددة (ربيع 1959، صيف 1970، إضراب الطلبة، المسيرة الخضراء، موت الأب، سنة التخرج الجامعي..)، إلى جانب الشخصيات المرجعية التي التقاها، أو تأثر بها فيما هي تنتمي إلى حقول ومشارب مختلفة (علال الفاسي، محمد حماد الصقلي، جبران، إيليا أبو ماضي، علي سامي النشار، أمجد الطرابلسي)، وهذا كله يؤكد الإحالة المرجعية لنوع السيرة الذاتية وفضائها الخارج نصي.

يستقي السارد أحداث السيرة من مصدرين رئيسيين؛ مما كان يتلقفه من «ذاكرة العائلة»؛ سواء من أحاديث الجدة وهو طفل صغير، أو من أبيه إدريس وهو طالب جامعي، أو من خاله علال بلبصير في سن المراهقة ثم الشباب، أو من أُمه وهو طفل ثم شاب تجاوز العشرين، محاولا أن يبرئ ذمته، ويضفي الأمانة والصدق على أقوال السيرة: «لكن من باب الأمانة أرسم ما أستطيع أن أتذكره، والذي لم يغب عن مخيلتي بعد كبري»، أو يستقيها من واقع تجاربه الشخصية التي كابدها أولا بأول، وإن كانت روايتها متشحة بطابع «المعاناة الباطنية» والوعي الاحتجاجي المصدوم حينا، وكانت حينا آخر مخترقة ببياضات: «وسأكتفي ببعض ما قد تجود به ذاكرتي التي أصبحت ترزح تحت عبء الشيخوخة..»، وعلى هذا الاعتبار نفهم دال (نافذة) في مكون العنوان.

إنه باعتباره بطل السيرة والقائم بأعمال سردها عن طريق ضمير المتكلم، يريد أن يضفي الصدق على ما يحكيه بغير بطولة مزعومة، بل يستدر تعاطف القارئ مع طفل، ثُم شاب ضرير عانى الأمرين في غياب الحقوق والولوجيات: «أستعين أحيانا بسؤال بعض الراجلين الذين لم يكن معظمهم يجيبني…»، وظل يواجه مصاعب الحياة بكبرياء وأنفة: «لا أريد أن أظهر له، ولا لغيره فراغ أمعائي التي ستصبح على شمس يومها الرابع وهي طاوية».

وكان الموقف الذي تصدر عنه شخصيته في أفعالها وقراراتها تتسم بالتهور والانفعال والمخاطرة لإثبات الذات، وبين الاعتبار والنقد الذاتي، غير أنه كان في معظمه موقفا أخلاقيا يمزج بين الإيمان الداخلي والتشبع بالثقافة الإسلامية، إلى حد أنه كان يعتقد في قرارة نفسه بأن الله يستجيب له لقضاء بعض حوائجه، وبين الالتزام بهموم المكفوفين وكفاحه معهم للدفاع عن حقوقهم الاجتماعية حينا، ونقد القيم المتردية في المجتمع حينا آخر: «وجدتني في مجتمع يصعب أن يميز أسوده من أبيضه…»، «وقد رأيت من هؤلاء المنتمين إلى زاوية رجل صالح ما لم أكن أتوقعه من اللؤم وسوء الخلق».

وكان يلقي عبر أحداث سيرته دروسا وحِكَما وعظات، لم ينِ يستخلصها من مواجهته ليل النفس وتناقضات الواقع، ومن الأخطاء التي حنكته، وهو ينقل صراعه المرير، والمثير للإعجاب كذلك، من طور إلى آخر أكثر تعقيدا ومسؤولية؛ من الصراع مع زوجة أبيه والمحيط الاجتماعي الهازئ إلى الصراع مع الدولة والقانون، من أجل الإنصاف ورد الاعتبار لطبقة المكفوفين وحقوقهم الاجتماعية في مغرب (سنوات الرصاص).

 

  • شاعر مغربي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي