مشروع نقد الرواية العراقية: قراءة في كتاب لنجم عبدالله كاظم

2020-10-04

تتبع المؤلف مسارات وطرق المؤثرات الأجنبية وتجلياتها في الرواية الحديثة المكتوبة في العراق

صالح الرزوق*

ربما كان الهم الأول لمشروع نجم عبدالله كاظم في كتابه «جماليات الرواية العراقية» هو تتبع مسارات وطرق المؤثرات الأجنبية وتجلياتها في الرواية الحديثة المكتوبة في العراق. وإذا وضعنا بالذهن حقيقة أن الوعي في الرواية العربية هو وعي تعريبي وليس إدراكا عروبيا لجوهر القضية، لا يمكن في أي حال من الأحوال، عزل ظاهرة الرواية العربية عن مرجعياتها. وهذا ما يبرر تداخل العناصر التقليدية في المقاربة مع عناصر التحديث في الأساليب والموضوعات (كما ورد في المقدمة). ولذلك توجب على الرواية العربية تصحيح مسارها وإعادة النظر بالتقاليد (أو ببناء خبرات الحاضر على وعي مخيلة الماضي) وهذا مؤشر على مشكلتين.

الأولى، هي ضرورة متابعة بوصلة الرواية التي لم تعد حكرا على الغرب (الغربي – أو نطاق حضارات الشمال). الثانية هي وعي الحضارة الجريحة بذاتها. وعبر عنه ما يسميه كاظم رفض موجات الكتابة عديمة الهوية، التي كانت عبأ على مسيرة الرواية في العراق (وبالضرورة في بقية بلدان الشرق الأوسط وآسيا).

وهذا يقودنا لنقطة تالية لوح بها كاظم في مستهل كتابه، وهي زيادة مساحة الأعمال الواقعية (الاهتمام بأصول كتابة الرواية ورفد جذورها المستوردة بهمّ محلي، كما هو حال «النخلة والجيران» لغائب طعمة فرمان و«الرجع البعيد» لفؤاد التكرلي على سبيل الذكر لا الحصر). طبعا بدون إغفال هموم التجديد، كما تعكسها طموحات رواية الأصوات (خمسة أصوات لفرمان).

ولا يفوتني هنا الإشارة إلى مشكلة الروايات الأوروبية المفتوحة. وهو ما تفعله الرواية العراقية المتأوربة (حينما تعكس واقعها الفني وتجتهد لتسويقه بأشكال تراثية). وربما من أحدث الأمثلة على ذلك مشروع برهان الخطيب، الذي يراهن على ظاهرة المقامة والإيقاع، أو مخيلة الصوت، أو لنقل الذاكرة الإحيائية. وهذا يفسر كلام نجم كاظم عن اشتراك الموضوعات في الإلغاء والاحتفاظ.

يبدأ كاظم كتابه من نقطة النهاية، ويترك مهمة استنتاج التعريفات على عاتق القارئ. حتى إنه يقفز من فوق أهم مشكلة في بحثه وهي: ما هي شروط الرواية التي نسميها عراقية؟ فالعراق ليس بلد التناقضات فقط، ولكنه أيضا بلد المتحولات السياسية. ونطاقه أو مداه المجدي مرّ بعدة أطوار. وهناك عدة نقاط انفصال وارتباط، منها مشكلة اليهود العراقيين، ومثلهم العراقي الإيراني، هذا غير جدلية شمال – جنوب. والمقصود بها تداخل الماهيات بين الكويت والعراق وكردستان.

وأعتقد أن هذه المشكلة تمثل واحدا من أهم التحديات في الأدب العراقي، فهو بلد معروف بالانقلاب على المفاهيم. ومثلما بدأ القلق على معنى الشعر العربي من العراق، وانتقل تعريفه من البنية الفنية إلى الحساسية الفنية، تعاني الرواية من الأعراض نفسها. فالقصة الجديدة ظهرت أول ما ظهرت في العراق (ومثالها يوسف الصائغ مؤلف «المسافة» وهي تحت نوع فني جديد يتراوح بين المسرح والقصة الطويلة والرواية القصيرة).

وأعقبتها النوفيلا، التي كتبها قصي الشيخ عسكر، وقدم لنا منها ما لا يقل عن 12 عملا (كل نوفيلا تتراوح بين قصة طويلة بحجم قصص فلوبير وبلزاك) ورواية قصيرة (بحجم روايات مارغريت دوراس). وإن لم تكن هذه المسائل ذات أهمية تذكر بالتقويم الأخير، غير أنها لا تساعدنا على تأكيد ماذا يعنيه بدفاعه المستميت عن عدد الروايات العراقية. فقد بنى على الكم عدة نتائج، ومنها بدأ في مناقشة تحويل المجتمع من أبوي بطريركي عشائري لمجتمع مدني متجانس، يتبنى مفهوم القوة العاملة ووحدات الإنتاج بغض النظر عن الجنس والطبقة.

تضاف لذلك مشكلة تالية في الحدود، وهي ماذا يقصد كاظم بكلمة واقع محلي؟ وتوجد أكثر من إشارة يدافع بها عن محلية سياق الرواية العراقية. بمعنى أنه يجد في إضفاء الطابع المحلي جزءا من مكون أساسي له علاقة بحامل الرواية (وهو أبطالها أو الشخصيات) والفضاء االموضوعي الذي ينتمون له وهو (الهوية). وإذا شئنا أن نختصر نقول: إن كاظم يولي أهمية فائقة لمشكلة الماهية في الرواية، ويعتقد أنها تمثيل للواقع.

 

لا يختلف كاظم عن بقية النقاد العرب، ويعتقد أن الرواية هي فن المدينة. والحق يقال احتلت بغداد معظم مساحة الرواية العراقية، وحتى الروايات المهاجرة، ومنها أعمال غالب هلسا ونعمات البحيري (وهي مصرية) كانت لا ترى من العراق غير عاصمته.

 

غير أن هذه الاصطلاحات أيضا تتحلى بقدر كبير من المطاطية والإبهام. هل الواقع المحلي هو ما نراه بأعيننا فقط (الواقع الطبيعي – المنظور)؟ أم أنه كل شيء له علاقة بموضع الشخصيات من واقعها الاجتماعي؟ وهذا يدفعنا للتفكير بكافكا.

هل كان كاتبا فضائيا (مثل الموظف الفضائي – الوهمي الذي ضرب اقتصاد العراق وألحق به أضرارا فادحة)؟ أم أنه نموذج لعصر بكل شروطه المشحونة والمحتقنة؟ وفي ما أرى إن التصوير غير الواقعي للواقع المحلي مسألة معروفة في الرواية العراقية وغيرها. ولكن في المقابل التصوير الرمزي لواقع افتراضي يكون أحيانا وسيلة ناجعة لتشخيص أزمات أي بيئة محلية.

وفي الذهن رواية: «ليلى والحاج» لمحمد الأحمد، التي لا تشخصن التجريدات المحلية فقط، بل إنها تسعى لدمج الصور بالأفكار، لتكون أفكارا مجسدة، منظورة ومسموعة.

وعلى ما أفترض إنه كان من المفيد، لو تناول كاظم هذه المعضلة الفنية بمقدمته، مثلما تناول بشكل خفيف، ولكن معلم وضروري، عدة إشكالات منها المعنى الاجتماعي للتقاليد، وظاهرة تعاقب الأجيال، ودور الواقع الداخلي في بناء فضاء الرواية، إلخ.

لكن يبدو أن كاظم أولى عنايته لمصطلح الرواية النسائية. وحددها بكل رواية طويلة أو قصيرة كتبتها امرأة داخل العراق أو خارجه، واعتبر أن نقطة البداية كانت مع «ليلة الحياة» لحورية هاشم نوري الصادرة عام 1950 باسم مستعار هو (فتاة بغداد). لكنه عقد لواء الريادة لسميرة المانع، واستعار من نازك الملائكة شروط الريادة وهي: أن لا تكتفي بالسبق التاريخي، وأن تكون مؤثرة، وأنها فتحت الباب لنصوص تالية تحذو حذوها.. بالمقابل نظر إلى «زهرة الأنبياء» لسالمة صالح (صدرت عام 1994) على أنها منعطف واضح في الكتابة النسائية.

ولا يختلف كاظم عن بقية النقاد العرب، ويعتقد أن الرواية هي فن المدينة. والحق يقال احتلت بغداد معظم مساحة الرواية العراقية، وحتى الروايات المهاجرة، ومنها أعمال غالب هلسا ونعمات البحيري (وهي مصرية) كانت لا ترى من العراق غير عاصمته. وفي الذهن «وجوه بغداد الثلاثة» لهلسا وبعدها «أشجار قليلة عند المنحنى» للبحيري. ولكن أجواء الرعب التي رسمها الكاتبان يمكن تعميمها على عموم أرجاء العراق. بمعنى أن بغداد كانت عينا سحرية أو عدسة مقربة، تنظر منها لكل ما يجري في هذا البلد، وهو يمرّ بلحظة تحول حاسم من تاريخه. وينتبه نجم كاظم لذلك في واحدة من لمحاته الذكية حين يقول: إن التحولات لحقت بالنماذج والأحوال، وغلبت عليها السلبية، أو أن موقف الرواية منها كان سلبيا.

ويسأل نفسه لماذا كل هذا الضعف وخيبة الأمل؟ ثم يجيب نفسه أيضا بقـــوله: لأن الروائي جزء من مجتمعه والمجتمع العراقي لم يعاصر غير النكبات والمآسي. وتترتب على ذلك مشكلة لها علاقة بالنضج الفني، وهي أن يفصل الروائي ذاته عن ذوات شخصياته. ويقدم كاظم مثالا مهما على ذلك من خلال دستويفسكي، الذي لم يكن يفرض نفسه على لغة مواقف شخصياته، وبلغة باختين (والكلام لكاظم) يعقله على أساس أنه أنا غيري.

ويلاحظ قفزة نوعية في أسلوب تقديم الشخصيات، ويصنف أسلوب ظهورها على مسرح الأحداث بواحدة من طريقتين: مباشرة إخبارية، وغير مباشرة استبطانية يتقمص بها الروائي شخصياته. أما آخر نقطة اهتم بها فتجدها في طريقة شرح وتفسير الحوار. وهو يقسم الحوارات لنوعين: بالفصحى وبالعامية. ويتابع ظهور كل شكل على حدة، ويؤكد أن الحوار منوط بالشخصية المتكلمة، وأنه أداة تساعد على رسم الشخصية ومعناها. ولا ينسى الإشارة لتنويع الحوار في الرواية الواحدة وأحيانا بين الروايات. فهو تارة بالعامية وتارة بالفصحى. بتعبير آخر كان الخلاف بين الشخصيات واللحظات السردية وأيضا بين الروايات. بمعنى أن الظاهرة الألسنية كانت عابرة للشرائح الاجتماعية وللنصوص. وهي تعبر ولا شك عن قلق فني لا تخلو منه رواية عربية. فالحوار أساسا شيء والكلام شيء آخر. وببساطة إن الحوار قانون فني لكن الكلام نشاط ألسني.

٭ صدر الكتاب عن دار شهريار ـ العراق ـ 2018.

 

٭ كاتب سوري

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي