فصل من رواية " رجّة تحس بالگــــاد "

الأمة برس
2008-06-24
محمد أحمد عثمان

خطر بباله أن يمر على مقر صحيفة "الشورى"..
حين خروجه من المطعم برفقة زملائه الثلاثة، لم تكن الفكرة في باله. كما لم تكن في باله فيما يقوم بجولته غير المعتادة، في شوارع معتادة تماما. فقط، فيما يفضي به التجوال إلى مفترق "كنتاكي" وإذ تطالعه اليافطة النيونية المزدانة بالأخضر الزاهي من علو، من واجهة الدور الخامس لـ عمارة ما شاء الله" -هكذا اعتاد الناس تسميتها؛ لأن العمارة تحمل على الواجهة الأمامية، اتقاءً للعيون ربما، جملة "ما شاء الله" مكتوبة بصف بارز من الأحجار- خطرت في باله الفكرة التي ما كان لها أن تخطر، لولا أنه كان قد أُبلغ بالخبر المثير: دعوات حضور المهرجان السنوي الذي تقيمه بعد أيام، في مدينة تعز، مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة، قد وصلت إلى من وقع عليهم الاختيار من كتاب وصحفيين وشخصيات عامه!
_ مافيش عندك فكرة إذا كانت هناك دعوة باسمي..؟
توجه بالسؤال إلى من نقل إليه الخبر. وكان قد التقاه، فور خروجه مع زملائه من المطعم
_ لا والله ماعنديش أي فكرة...
في العمق، لم يكن "وليد" كلفا بالمشاركة في المناسبة. كما لم يكن مكترثا بالمشاركة في أية مناسبة أخرى. منذ زمن، تقبل، بطيب خاطر، النظر إلى نفسه كما لو كان قد سقط من المجال العام. المرة، ولم يكن قد بارحه بعد الشعور بالتلوث الذاتي من جراء سوء الفهم الذي نشأ بينه وبين "رشيد" في المطعم، فإن جملة "ما عنديش أي فكرة..." التي سمعها للتو، قد ضاعفت من الريبة التي ما انفكت تسيطر عليه إزاء اللغة، اللغة التي كانت، نفسها، وراء سوء الفهم ذاك. وهكذا، دفعة واحدة، وجد نفسه في مكان "رشيد" وغدت "ما عنديش فكرة.." لا تقول شيئا أخر سوى " من أنت لتحصل على الدعوة...؟" وبمجرد ذلك، لم تعد لديه الرغبة في مرافقة زملائه إلى المقيل الذي تحييه "شلة الكلية" معظم الأيام في منزل احد أفرادها، في حي مجاور للكلية. عوضا عن ذلك، يريد أن يكون بمفرده، ومن ثم، أن يتفرغ لبعض الاستقصاءات حول مَن من المعنيين نال دعوة ومَن لم ينل. ترافق ذلك، بطبيعة الحال، مع مقارنة باطنية، كئيبة ومرهقة للنفس، بينه وبين أولئك، ممن أُخبر أنهم قد حازوا عليها. ولم يكن في مزاج يسمح له اعتماد أي معيار للمقارنة سوى معيار الحصول على الدعوة! كما لو يتعلق الأمر باعتراف بحق في الوجود. بدون حيازته ما كان له أن يحس إلا بأن شيئا من وجوده قد نقص.
_ دعوتك مع سنان...
أخبره صوت في المكالمة الرابعة التي يجريها لهذا الغرض. وأحس بالفرح إذ يسمع ذلك. حاز أخيرا على وثيقة إثبات الوجود. مع ذلك، لم يتعدَ إحساسه بالفرح الإحساس بكونه فرح ناقص. واقع أن الدعوة لما تزل بعيدة عن التجسد أمام عينيه جعله أسيرا للشعور بأنه لم ينل سوى وعد بوجود، لا وجود فعلي.
_ معك رقم سنان...؟
_ لا والله، روح العشي الى مقهاية العم عبد الوهاب وبتجد سنان هناك..
كان "سنان" احد الرواد المسائيين لـ"مقهاية العم عبد الوهاب". يعرف ذلك. وهكذا فقد كان المقهى، كما قدر زميله في المكالمة، هو المكان الأنسب لاقتناصه. لكن إلى أن تحين الساعة تعين عليه، طوال فترة ما بعد الظهر، أن يقاسي تشوقا مضنيا ونافد الصبر، ممتزجا بعدم التيقن من انه مدعو حقا. الأمر الذي جعله في حالة مزاجية تتنافر مع الرغبة في العودة إلى البيت، ناهيك عن الاستقرار الذهني على مكان بعينه يستريح فيه إلى أن تحين ساعة المساء حيث موعد الذهاب إلى المقهى. وهكذا، أسيراً لتجوال بلا هدف، حدث أن وصل إلى الرصيف المتاخم لتقاطع "كنتاكي" حيث، مبحلقا في اليافطة النيونية المزدانة بالأخضر الزاهي تطالعه من علو، سيتذكر أنه سبق له أن التقى سنان كذا مرة إما خارجا أو داخلا إلى مقر الصحيفة. وإذن لماذا لا يجرب المرور للسؤال عليه؟! دلف إلى داخل العمارة. أعطى أوامره للمصعد الذي حمله رأسيا إلى الدور الذي يتواجد فيه مكتب الصحيفة...
لم يكن "سنان" هناك.
نازلا به، توقف المصعد عند أحد الأدوار. في الدور الرابع تحديدا. وأسفر انفتاحته عن رجل دلف إلى الداخل. أغمض المصعد بابه واستأنف الهبوط. في تلك اللحظة تحديدا، خيل إليه أن شيئا ما، لمحه في الرجل لحظة دخوله، لم يتحدد في ذهنه تماما، لكن وَلَدَ لديه فضولا يشوبه الخوف. بحذر رفع نظراته عن الأرضية المطاطية المخددة. أدار وجهه بما يكفي لتفلت منه التفاتة طفيفة ناحية الرجل. تبعتها أخرى. التفاتتان طفيفتان أفرغهما، للتمويه، مما يمكن أن يثير انتباه الرجل أو يفصح عن هدف قصدي لهما: كان الآخر يقف إلى جواره، على بعد قدمين وعلى نفس خط وقفته تقريبا. معناه أن كل التفاتة وفرت مشهدا جانبيا، استخلص منه بعض الخصائص، والذي عند جمعه للبعض الآخر، حصل على هذه الصورة : قامة مديدة، بنية عضلية، بشرة سوداء، شعر أكرت يتشكل، مثل قبة، أعلى الرأس. إضافة إلى لفة أسلاك كهربائية يضمها إلى صدره بكلتا يديه وكأنه يخشى فقدانها. فيما مقدمة وجهه، بارزة الملامح، مسحوبة بانشغال عميق، نحو باب المصعد، إلى درجة بدا معها الرجل وكأنه مجرد من الإحساس، ليس فحسب بمن بجواره بل حتى بجدران المصعد.
عدا ذلك، لم تتضمن الصورة شيئا فائقا للمألوف؛ الشيء الذي توخى تحديده تبخر تماما قبل أن يتاح لنظراته. لم يبق منه سوى صداه يتردد بإلحاح داخله مغذيا فيه خوفا بقي خارج نطاق السيطرة. سرعان ما تحول إلى توجس غريب: ماذا لو هاجمني الرجل؟! كيف سيكون رد فعلي؟! واكتسحت تفكيره رؤى انسحاقية لم تترك له زاوية أو ركنا يلوذ بهما. في حضورها رأى نفسه يُهاجم من قبل الرجل. رآها مصدرا لردود أفعال عشوائية، شذت عنها ارتماءته تلك نحو لائحة الأزرار، في محاولة يائسة لبلوغها بأصابعه، لإيقاف المصعد عند أحد الأدوار، ثم الهرب خارجا. لكن ماذا لو لم يسعفه الوقت؟ لو أحكم الرجل قبضاته عليه، وسحبه بعيدا عن جهة الأزرار؟ كأن يحصره في الركن الأبعد مثلا، لضمان عدم نجاته من الموت الذي أعده له؟ وتملك الأسئلة حنين جارف لردود: إن عملية المسح الخاطفة التي قام بها لقامة الرجل، لم تتراءى له عند خاتمتها إلا كطريقة معكوسة لإعادة اكتشاف ضآلته هو: إن رأسه يبلغ بالكاد كتف الرجل. إذن ليس أمامه في حال بادرة هجوم إلا أن يستخدم قدميه. وحدهما قدماي ستظلان، في الوضع المكبل الذي رأيتني فيه، حرتان بحيث أتمكن من تسديد زخة من الركلات القوية والمتتابعة إلى خصيتيه. قامتي القصيرة ستساعد على ذلك ... لكن بذرة من عدم اليقين، من عدم الثقة، انزرعت في قلب هذا الاحتمال، تفجرت على هيئة تساؤلات جديدة أقصت طمأنينته. تشكلت مخاوفه على هيئة توقفات في دورته الدموية. خيل إليه للحظة أن الزمن توقف هو الآخر. فيما رحلته العمودية، على متن المصعد، بلا نهايات ولا محطات توقف.
فات حواسه استقبال رجة تحس بالكاد ترافقت مع توقف المصعد في الدور الأرضي. كان معلقا باعتقاده في لانهائية الرحلة. لم يستعيده من الاعتقاد سوى رؤيته الرجل ينزلق نحو الخارج عبر انفراجة الباب. عندها فقط أدرك أن بوسعه معانقة الراحة التي انتظرته في الأسفل بصحبة سؤال: من أي شق في رأسي ولجت هذه الفكرة المرعبة؟! فكرة أن يتعرض لهجوم من قبل رجل لا يعرفه، وليس من سبب يدعوه لذلك. وسحبه من العمق الذي أغرقه فيه السؤال مشهد خلفي للرجل، إذ يتقدم أمامه باتجاه باب الخروج. لفت انتباهه شيء، لم يدر كيف غاب عنه قبل الآن: وجه الشبه بينه وبين سفاح كلية الطب الذي شغل افتضاح جرائمه الرأي العام لمدة طويلة قبل ذلك. افترض إن هذه القرينة التي هلت إلى ذهنه من تلقاء ذاتها. هذه القرينة بالذات، مارست عليه خفية، منذ ولوج الرجل إلى المصعد، تأثيرا قويا. أشبه بذلك التأثير الذي تمارسه، في أحلامنا، الظروف المحيطة بنومنا.
كان لسفاح كلية الطب، بما أنه كان ملاكما في الأصل، طريقة في اصطياد ضحاياه: يحكم قبضاته عليهم، بعد استدراجهم إلى أماكن معزولة، ويدفعهم إلى مغادرة الحياة في لحظات. لطالما كان سماعه أو قراءته ذلك يثير فيه الشعور بالرعب. الرعب ذاته الذي انتابه قبل قليل، في المصعد، ودفعه إلي خوض معركة مؤرقة مع هواجس، انمحت بمجرد أن أخلى المصعد سبيله. وهاهو ذا مرصود لارتياح عميق ليس لاكتشافه زيف مخاوفه فحسب. لكن لكونه نجح، لأول مرة في حياته_ هل كانت الأولى حقا؟ لا يستطيع الجزم!_ في تحقيق حلم يراوده منذ مدة: أن يستوقف أفكاره! أفكاره التي لم يعهدها إلا، كغدران جوفية، جارية ومتدفقة خارج رقابته الذاتية، تحضر الآن منصاعة لبحث ذاتي، يشعر معه بجسده، على غير عادته، طيعا ومنصاعا لإرادته، تقوده على مربعات رصيف شارع "الزبيري" على وقع خطى هادئة ومتزنة، أفضت به، بدورها، إلى سؤال جديد: لماذا تخيلت نفسي في موقع الضحية بالذات؟! ولم تتأخر الإجابة. انه الشعور بالهشاشة والقابلية على التلف! لكن أين منبع الشعور؟ في بنيتنا الجسدية مثلا؟ لا طبعا. يستبعد ذلك. وعلى الفور، هرع "رشيد" للمصادقة على الإجابة. أو بالأصح، مشهد "رشيد" جالسا على مصطبة في فناء الكلية. كان ذلك عندما كانا ما يزالان طالبين في الكلية. رغم تمتع "رشيد" بقامة مديدة وممتلئة، لم يكن، مع ذلك، يتوانى عن إبداء دهشته من ضآلة ساقيه... ساقاه بالذات كانتا تبدوان له في منتهى الضآلة، رغم أنهما كانتا أطول جزء من جسده! ما يدعو إلى الافتراض أن مصدر الشعور بالهشاشة لا يكمن في ضآلة أجسادنا، لكن في تصورنا عن هذه الأجساد. وهو تصور محكوم، بطبيعة الحال، بعوامل عدة، كوضعنا الاجتماعي، قربنا أو بعدنا عن مراكز القوة، السياق الثقافي ومكانة الجسد فيه....وأشياء أخرى... فقط لو لم يكن، في الأثناء، يرغب عن دور المحلل النفسي أو الاجتماعي، مكتفيا، فحسب، بما هو عليه: شعور بالثمالة! ورغبة، في الوقت ذاته، بالإمساك، لأطول مدة ممكنة، بالشعور الذي يفوق في رحابته شعورا آخر يمكن أن يمده به أكثر أنواع المخدرات فعالية، لكونه ينجح في بسط سيطرته على جسده، لسلاسة تسربه إلى داخل المجرى السري لأفكاره ... ثم، لا يهم بعد ذلك، نحو أية أرض للمجهول، كان الشعور يحمله..!
-16-
_ كنت أتذكر صديقة صينية...
قال دون أن يبدو عليه أدنى اكتراث لحنق زميله.
_ صديقة صينية!! هه، صديقتك أنت؟! لو كان ذلك صحيحا لما صبرت إلى الآن لتحكي لي..
تشكك وجه الزميل دون أن تتكبد لسانه عناء الحركة. وأحس الآخر أنه ما يزال بعيدا جدا عن تدارك الغلطة. في السبيل إلى ذلك، أوضح أنه إذا لم يكن قد سبق له أن حكى فلان علاقته بصديقته الصينية تعود إلى ما قبل تعارفهما بوقت طويل. من جهة أخرى، بدا مستغربا من تسرب ذكرى عزيزة إلى هاته الدرجة من ذاكرته دون أن ينتبه، مرجعا السبب إلى حالة التشوش والاضطراب التي عصفت بعالمه الداخلي خلال السنوات اللاحقة. وأنه لولا لقاؤهما بالثلاث الصينيات قبل قليل، ما كان له أن يستل الذكرى مجددا من تحت الركام. قال ذلك بصوت تسكنه رغبة لا تُكبح في سرد ذكرياته.
في الأثناء، لم يبد أن أثرا من شك مع أثر من كمد، لكون رغبته في بث شجونه القمرية قد أعيقت، قد فارقت وجه زميله. لكن كفة الهوس في سماع أي شيء عن شيء صيني رجحت في النهاية. فراح يشنف حواسه للصديقة الصينية التي قال صاحبها أنها كانت تحمل اسما صينيا يستعصي على اللسان العربي. ما اضطرها أن تختار لنفسها اسم "سميرة". كان حينها لما يزل طالبا جامعيا في المستوى الثالث. وكان بالكاد يتماثل من أزمة حادة ألمت به وجعلته يبصر- قال ذلك دونما حاجة لتحديد- نهاية كل حلم وزيف كل اعتقاد. وأنه إذا كان هناك من شيء يستحق صفة الحقيقة فهو القطعة من العالم حيث نكون وفي اللحظة التي نكون فحسب. لكن الغالبية الساحقة من أبناء جنسه وباستثناء تلك المرحلة القصيرة من العمر التي تدعى الطفولة المبكرة فإنهم يعيشون ويموتون دون أن يختبروا طزاجة ولا نهائية الشعور- بكونك هنا والآن، لا في مكان آخر- بهذه القطعة في وجودها الأولي، العاري من أية تحيزات أو أحكام مسبقة. انه استبصار يجعل الواحد يترقرق عذوبة وحزنا في نفس الوقت. شعور معه يفقد المرء الوثوق بالكلمات ويقلص اهتمامه بالعالم إلى مستوى تفصيل صغير من قبيل جذع متشقق أو لمعة على طاولة أو وجه مفعم بالتجاعيد أو جدار خرب مليء بأشغال العث بحيث يستغرق في تأمل هذه الجزئية أو تلك لساعات وساعات دونما رغبة حقيقية في استخلاص شيء. واستطرد أنه بالتزامن مع ذلك وقع في غرام الرسم ليس كمتذوق، يتمتع بعينين نهمتين فحسب، لكن كممارس أيضا. أنجز، في الأثناء، عدة بورتريهات ومناظر طبيعية. وإذا كان، فيما بعد، قد توقف نهائيا عن الرسم فلأنه لم يرغب الموت لأحد أو شيء. بعد أن تبين له موت بعض من رسم من أصدقائه. مع ذلك، لا يقدر أن يقول إن التجربة مرت دون أن تترك وسماً عليه: بضعة حدوس وعلى رأسها الحدس بأن رساما متفردا، بقطع النظر عن الحساسية التي يمثلها، لا يسعه جزئيا أن يكون ما هو عليه إلا لأنه قد عاش تجربة ذلك الانهيار الداخلي الذي من إحدى علاماته فقدان كل واسطة بالعالم مصداقيتها بالنسبة إليه ماع
من ناحية أخرى، تخللت زمن التجربة تلك، طعنات متكررة من قِبَل الإدراك بأن الإنسان، كفرد، هو كائن متوحد في الأصل، مهما تصرف أو تظاهر بأنه عكس ذلك. وان كل أشكال التواصل التي يخلقها، وبشكل خاص اللغة، لا تعمل شيئا سوى تعزيز العزلة الأصلية. والحكيم إنما هو من يتقبل، بطيب خاطر، التعايش مع هذه البديهية. لأنها قِسْمته. خُلِقت لترافقه مثل ظله. أما بالنسبة إليه، يعترف أنه أخفق في التقيد بذلك. أخفق في ترويض جسده الذي يلح عليه أن يتوحد مع آخر...
في تلك الفترة تحديدا تعرف إليها.
كان قد انسحب إلى مكتبة الكلية لوضع اللمسات الأخيرة على رسمة لواحدة من أشجار الفناء، انتهى للتو من وقفة مطولة أمامها. ولابد انه كان منكبا على الرسمة بحيث لم ينتبه إلى جلوسها في الجهة المقابلة. لكن لا، لا يمكنه، بالذات في تلك الأيام، أن يجلس بمواجهة امرأة بذلك الجمال ولا ينتبه إليها. الأرجح أنها كانت، في الأثناء في مشوار إلى احد الرفوف. وحين عادت لم تستطع إلا أن تتوقف مطولا وراء ظهره تختلس النظر إلى الرسمة. وحالما التفت وقعت نظراته على ابتسامتها فياضة تتدلى فوق كتفه. وبالأخص على تلك النداوة اللماعة التي تغطي تلكما العينين السوداويين الصغيرتين المتوجتين بفروة شعر قصيرة سوداء وشديدة الانسياب. وسألته بلغة عربية أكثر اتقانا من لغة المرأة التي تحدثا إليها قبل قليل إذا ما كان رساما أي شخصاً يمتهن الرسم. أجبره تواضعه على القول لا.
_ هاوٍ؟
_ لا أيضا.
_ وإذن؟
_ كل ما في الأمر أنني أريد أن انطبق على العالم بكل كياني بحيث لا يفصلني عنه حتى.. حتى الملابس...
وجذب بكلتا يديه ملابسه فوق صدره. أدهشتها أجابته لدرجة معها ارتمت لاهثة على الكرسي المقابل حيث كانت حقيبتها بانتظارها هناك. فتحت حقيبتها وأخرجت منها دورقاً بداخله شاي صيني اخضر. صبت في الكأس الصغير الذي بمعية الدورق. وناولته قائلة، مع ابتسامة ودودة، انه لأجل الرسمة ولأجل ما قال، استحق، عن جدارة، كأس من الشاي الصيني. وخف إلى الكأس قائلا، في نفس الوقت، انه لطالما هفا إلى كل شيء صيني. ولم يكن، إذ يقول ذلك، يضمر تلميحا ذا مغزى خاص. إلا أنه، إذ يشاهد وجهها يتضرج بحمرة فقد تضرج وجهه بالمثل. وعندئذ، فحسب، أدرك أن ما كان في حكم العدم قد صار أمرا ملموسا يغلفهما مثل وهج حنون، دون أن يكون لهما يدٌ في ذلك. وسألها عن سبب وجودها هنا. يقصد في بلده. مبتعثة من الجامعة التي تعمل فيها لإنجاز بحث حول التصوف الإسلامي. وانتقلت الدهشة هذه المرة إلى عينيه. ففضلا عن كونه عاش، للتو، تجربة يستطيع، دون مجازفة، أن يصفها بأنها شديدة الشبة بالتجربة الصوفية كان قد درس مقرر التصوف الذي أخبرته أنها تواظب على حضوره. وإذن ما من مبرر لكي لا يعرض عليها مساعدته. سأكون ممتنة. أجابت. وهكذا أخذت لقاءاتهما تتكرر. وكانت تسكن في سكن الطالبات. فيما يستأجر هو غرفة في حي مجاور للجامعة. وفي الأثناء نمت لديه رغبة جسدية كاسحة ولم يكن بعيدا عن الإحساس بأنها تبادله نفس الرغبة. إلا أن احدهما، بدافع الخشية من الوشاية، لم يتجرأ على دعوة الآخر إلى مسكنه. وهكذا لم تخرج لقاءاتهما عن المكتبة وفناء الكلية. ما عدا مرة يتيمة، تلك المرة التي، بالمناسبة، من فرط التذكر، اكتسبت- استخدم هذا التعبير بحذافيره- مناعة نقش قديم عن المحو. وكان قد اشترى لها في طريقه عقدا من الفل. وحين وصل إلى المكان المحدد منذ يوم مضى، وكان قريبا من سكن الطالبات، وجدها بانتظاره. وكان في يدها، زيادة على حقيبتها اليدوية والكتب، مفتاح يتدلى من طرف سير اصفر طويل. وقالت له أنهما سيذهبان لقضاء بعض الوقت في "مطعم الطلبة الصينيين". وأوحت له التسمية بحيز دافئ ومؤطر بديكور صيني. وأكثر من ذلك، يحتمي من العيون الواشية بتجمع سكني للصينيين المقيمين في المدينة. لكن خيبته كانت كبيرة إذ يكتشف، لدى وصولهما، أن المطعم لم يكن أكثر من غرفة ضيقة أسفل سكن الطلاب اليمنيين. إلى ذلك تزامن وصولهما إلى هناك مع ثلة من الطلاب يقفون على مقربة من الباب. حتى إنهما لإثبات حسن النية، تركا الباب مفتوحا. لم يمنعه ذلك بالطبع من أن يخرج عقد الفل من كيس النايلون الذي يحمله ويقلدها إياه بالتبجيل الذي يقلد به زعيم احد رموز شعبه. الأدهى من ذلك، أن ثلاثة أشهر من ادعاء التبحر في العلم اللدني قد جعله يصدق انه قديس فعلي بحيث لا يصغي لطمعه في مجرد قبلة بدت لها- وله أيضا- ممكنة إبان مطر غزير كنس أمام الباب من أي حضور فضولي. وراحت أقدامها المتأرجحة تحت الطاولة ترتطم به المرة تلو الأخرى. لا فائدة. فيما عدا لسانه يولول بشروح صوفية في إصرار من يتفادى رغبته، كان جسده قد تحول كلية إلى صخرة تستعصي على الزحزحة.
_ خلاص لم اعد افهم شيئا، قاطعته، لنلعب قليلا.
وأخرجت من حقيبتها علبة الورق. وأحس بارتياح شديد. أخيرا لُبيت حاجته إلى فعل يفرمل حركة لسانه. وراح يتابع يديها وهما تصفان الأوراق بالمقلوب في تنويعات مختلفة على الطاولة.
_ اختر واحدة. خاطبته. سأقرأ مستقبلك.
_ هذه.. وأشارت يده إلى إحدى الأوراق. أمسكتها بيدها ورفعتها إلى قبالة عينيها مدققة فيها للحظة. سحبت الورقة إلى أسفل قليلا، بما يكفي لكي يبان من ورائها وجهها المكفهر فجأة يتطلع إلى وجهه.
_ مستقبلي تعيس؟!
تساءل خجلانا بعض الشيء.
_ إذا اعتقدتَ في ذلك..
أجابت دون أن تكف عن النظرة المعتمة إلى وجهه.
فيما بعد، لدى مغادرتهما، مبتعدين كفاية عن المبنى حيث يقع المطعم، تسنى لصوته أن يخرج مرتجفا:
_ كنت أريد أن اطلب منك شيئا.
_ لكنك لم تطلب!!
ورشقته بنظرة مؤنبة.

 

 

* قاص وروائي يمني 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي