العميان ليسوا ملائكة إنهم يخونون مثل كل الناس

2020-09-04

عالم العمى المبصر (لوحة للفنان جون مارتان)

محمد الحمامصي*

أغرى عالم فاقدي البصر الكثير من الكتاب العالميين لما فيه من مجهول وبصائر تخرج من عتمة العمى، لكن يبقى اللافت هو أن الأدب على عكس الأفعال المشتركة التي تتوقف عند حدود الشفقة، لا يهتم بالعمى أخلاقيا من باب الإشفاق، بل هو يعري تفاصيل منه ومن عوالم فاقدي البصر التي لا تخلو بدورها من الأفعال اللاأخلاقية.

تدور أحداث رواية العراقي شاكر نوري الحادية عشرة “الرواية العمياء”، حول شخصية مروان الذي كان يعيش حياة هادئة إلى أن استدعاه مديره في مؤسسة رعاية العميان وقام بتكليفه بمهمة استقصاء الفساد لا كموظف مبعوث ولا كصحافي بل كأعمى يدخل إلى معهد تدريب العميان بأوراق مزيفة، لكي يكتب تقارير عن الفساد فيه.

 

"الرواية العمياء" مبصر يدخل عالم العمى المثير، يعيش مغامرة في الحب والصداقة والمحبّة والفن.

يلتقي مروان عبر تسعة أشهر بشخصيات عديدة في المعهد منهم الزيبق الأعمى الماكر وحياة الفاتنة العمياء، وبورهان مدير المكتبة، والموسيقي فريدون، والرسام سرغين، والصبي القارئ، وسلطانة الشيطانة، والراقصة ميلاد. وكل منهم يمثل عالما قائما بحد ذاته.

مبصر مع العميان

في مدة إقامته هناك، يقع مروان في حب الفتاة الفاتنة العمياء حياة التي تبادله الحب، ولا تعلم بأنه بصير. وعندما يتم نقله إلى الفحوصات الطبية لمدة أسبوعين، يقوم الزيبق، الأعمى الماكر الذي كان طامعا في هذه الفتاة العمياء، ولم يتمكن من النيل منها، بتقليد مروان حرفيا حتى صوته ولكنته وعطره ويصبح شبيهه لكي يخدع حياة بأنه مروان ويتمكن من فضّ بكارتها.

وعندما يعود مروان من الفحص الطبي، يُجن جنونه عندما يرى فتاة أحلامه مع رجل آخر، وأثناء معاتبته لها ومشادته مع الزيبق، تصرخ حياة: أيكما مروان؟

 

الكاتب اعتمد في تأليف روايته "الرواية العمياء" على قراءات عديدة في عالم العمى من قصص وروايات وأرشيفات مختصة

وهنا يواجه مروان قدره إما أن يُسمل عينيه ويبقى بين العميان وإما يخطف حبيبته ويعيش خارج أسوار المعهد، فيختار الهرب مع حبيبته حياة. وفي النهاية يواجه مشكلة كيفية الاعتراف لحبيبته بأنه بصير، فيقوم بسرد روايته التي كتبها في المعهد وهي “الرواية العمياء”.

اعتمد الكاتب في تأليف روايته “الرواية العمياء” على قراءات عديدة في عالم العمى، منها: قصة “الشبيه” للكاتب والأديب الراحل فهد الأسدي، وحياة أبوالحسن علي بن إسماعيل والمعروف بابن سِيدَه المُرسيّ، 398هـ/ 1007م، وهو لغوي أندلسي، وصاحب كتاب “المحكم والمحيط الأعظم”، كان أعمى ودرس مع والده، الذي كان فاقد البصر أيضا. وكذلك اطلع الروائي على أرشيف معهد النور لطلبة ذوي الإعاقة البصرية ببغداد الطوبجي، الذي تأسس في 1949 ويعد أحد أعرق المعاهد التي تعنى بشريحة ذوي الإعاقة البصرية في الشرق الأوسط وحوارات مع بعض أساتذته في 2002.

ليسوا ملائكة

تكشف الرواية، الصادرة أخيرا عن دار شركة المطبوعات في بيروت، عن عالمين؛ عالم المبصرين وعالم العميان، وتجسس أحدهما على الآخر.

وتختلف رواية “الرواية العمياء” عن الروايات الأخرى التي كُتبت عن العميان، “بلاد العميان” لهربرت جورج ويلز، ورواية “العمى” للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، ورواية “الموسيقي الأعمى” لـلروائي الروسي فلاديمير كورولينكو، في أنها لا تطرح فقط بصيرة العميان بل في تجسس عالم المبصرين على عالم العميان. والتأكيد على فكرة أن العميان ليسوا ملائكة فهم بشر يمكن أن يكونوا فاسدين ومجرمين ومغتصبين وقتلة أيضا.

عالم مثير

وما بين البصر والبصيرة، يطرح الروائي العراقي شاكر نوري في روايته “الرواية العمياء” ويثير عبر حبكة مشوقة ما عاشه مروان من حب مع حبيبته العمياء حياة، وكيف تمت خيانته من قبل أحد العميان الماكرين الذين كانوا يعيشون في معهد تدريب العميان.

وفي الوقت ذاته، عاش الشخصية الرئيسية والراوي مروان أكبر مغامرة في الحب والصداقة والمحبّة والفن بين أسوار هذا المعهد، ووجد العالم الذي كان يفتقده في عالم المبصرين.

ولا تخلو الرواية من البعد الفلسفي الذي يطرحه السيد بورهان، مدير مكتبة العميان في المعهد، الذي يعقد معه مروان علاقة صداقة، فهو المتصوف في عالم الكتب الذي جاء بالصبي القارئ ليقرأ له أمهات الكتب لبعث الثقافة بين صفوف العميان، وحثهم على القراءة وتذوق الفنون إلا أنه يُقتل في ظروف غامضة. ويساهم مروان في تحقيق حلم الموسيقار الأعمى فريدون بتأسيس فرقة موسيقية أوركسترالية من العميان.

وكذلك يعقد مروان صداقة مع الرسام سرغين الذي ملأ جدران معهد العميان بالرسومات.

يقول الكاتب شاكر نوري عن روايته “الرواية العمياء هي سرد البصيرة عند العميان، وسرد العمى عند المبصرين”.

هكذا يبدأ روايته “لطالما تهيبتُ في البداية لما وجدتني فجأة أعيشُ وسط العميان، نسيتُ بصري، ولذتُ مثلهم ببصيرتي، وبعد تسعة أشهر برفقتهم كأنّها العمر كلّه، بكيت لفراقهم، وتألّمتُ وأنا أدير ظهري لسعادة ما كنت لأعرفها أبدا، إذا ما كان لي أن أفتتن بالجمال الأعمى لولا المعشوقة حياة، ولا أن أدرك معنى الشبيه لولا مُقلدي الزيبق، ولا أن أطربَ لأنين الموسيقى لولا المغني فريدون، ولا أن أتعلّق بسحر الكلمات لولا المبدع بورهان، ولا أن أحسَّ بألوان العماء لولا الفنان سيرغين، ولا أن أعجبَ بعظمة الذاكرة لولا الصبي القارئ، ولا أن أكتشفَ المكرَ الأنثوي لولا الشيطانة سلطانة، ولا أن أنتشي بروعة الجسدِ الأعمى لولا الراقصة ميلاد”. في هذا الاستهلال يختصر المؤلف المعنى الفلسفي لما يفكر به شخصيات الرواية.

 

  • كاتب مصري






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي