أوتو فروندليش تجريدي بارز أعدمه النازيون

2020-07-28

 أعمال تبرز فيها لمسات اللون الصافي

أبو بكر العيادي*

رافق الألماني أوتّو فروندليش كل الحركات الطلائعية، من الانطباعية إلى حركة التجريد - الخلق مرورا بالدادائية، ولكن النقاد يعتبرونه رائدا من روّاد التجريدية إلى جانب فرنتيشيك كوبكا، وفاسيلي كادينسكي، وبيت موندريان، قضى مسيرته الفنية متنقلا بين ألمانيا وفرنسا.

ينحدر أوتّو فروندليش (1943-1878) من أسرة يهودية اعتنقت البروتستانتية، وهذا سبب من الأسباب التي غذّت كراهية النازيين إزاءه، فضلا عن اعتبارها إياه رمزا من رموز “الفنّ المنحرف” الذي كان يوصم به الفن المعاصر، فكان مصيره السجن في أحد المعتقلات حيث لقي حتفه أثناء الحرب العالمية الثانية.

ولذلك لم يظهر نبوغه الفني إلاّ متأخرا، أي عام 1904 في ميونخ حيث تعرّف على بول كلي وفاسيلي كادينسكي، واهتم مثلهما بنظرية التنافذ بين الفن التشكيلي والموسيقى.

 

الفنان التشكيلي أوتّو فروندليش كانت له مكانة مرموقة في الوسط الفني كواحد من رواد التجريدية بباريس وأصبح عضوا فاعلا في مجموعة "تجريد-خلق" عام 1931.

كان مطمحه التوصل إلى رسم النسق عن طريق التصوير، وعندما قدم إلى باريس عام 1908، واستقر كأغلب الفنانين في “باتو لافوار” بمونمارتر، أقام علاقة مع جاره الإسباني بابلو بيكاسو، فحاول أن يرسم هو أيضا تصوّره لـ”آنسات أفينيون”، تلك اللوحة التي تمرّد فيها بيكاسو كليا على القواعد الأكاديمية، فقضّى ثلاث سنوات في تنقية وجوه شخصياته ليصهرها في الكتلة، فكانت لوحة “إنشاء” قفزة نحو التجريد، في موازاة أعمال أنجزها في نفس الفترة كوبكا وكادينسكي وروبير دولوني.

وكانت تلك مناسبة كي يمرّ إلى مرحلة الزجاج المعشّق، وهي مرحلة بدأ يجرّبها في ورشات كاتدرائية شارتر عام 1914، قبيل الحرب، فكان تقطيع الزجاج وتجميع قطعه المختلفة شكلا ولونا قد أوحيا له أسلوبا فنيا أسماه النقاد بـ”الباتشوورك”، إذ كان يفكّك العمل وفق رسوم دقيقة لا مجال فيها للارتجال.

مرحلة الزجاج المعشق بدأ يجرّبها في ورشات كاتدرائية شارتر عام 1914

وعندما اندلعت الحرب، انضم إلى صفوف جيش بلاده، ولكن فظاعتها ولّدت في نفسه إيمانا عميقا بالسلام ومعارضة العنف، فلما قامت الثورة البلشفية في روسيا وظهرت الحركة السبارتاكية (وهي حركة يسارية ثورية ماركسية متطرفة ظهرت خلال الحرب وساهمت في الثورة الألمانية 1918 -1919) أعلن انتماءه إلى الاشتراكية، وبدأ يخالط فنانين من حركة دادا أمثال راوول هاوسمان، وهانا هوش وأتّو ديكس، وكاد يلتحق بعدها بمدرسة باوهاوس التي أسّسها والتر غروبيوس في فيمار.

لم يندّد فروندليش بالحرب بصفة راديكالية كما فعل الدادائيون، بل كان يريد اتقاءها من خلال أعماله التجريدية كما أكّد كادينسكي في كتابه “الروحانية في الفن”.

والروحانية المقصودة هنا لا علاقة لها بالدين، بل كانت تهدف إلى جمع مجموعة بشرية كبرى حول فن كونيّ، لا يستوجب دربة ولا تنشئة معينة، بل طريقة تتوجّه إلى كل واحد بلغة حدسية. وهو مطمح قريب من معاصره بيت موندريان، ولكنه يختلف معه على المستوى الفلسفي والفني، فبينما اتجه موندريان إلى الطبيعة لرسمها تجريديا، مارس فروندليش رؤيته الفنية بحرية تامة.

وفي أعماله تبرز لمسات اللون الصافي مثل آجر جدار زاهي الألوان، فالكاتدرائية التي أنشأها وجعلها مُضاءه بقرص، أرادها للبشر جميعا، كما هو الشأن في “شظايا صورة عن مختلف المستويات” التي أنجزها عام 1927. فقد تصوّر ذلك القرص كعين كونية، ورابط دائم لصورة البشر، ويظهر ذلك بشكل جلي في منحوتاته المتشظية مثل “صعود إلى السماء”.

استقر فروندليش نهائيا بباريس عام 1925، وارتبط بجان كوسنيك كلوس (التي عملت على المحافظة على أعمال صديقها بعد نفيه)، ومهدّ الطريق لأحد وجوه الفن الخام غاستون شيسّاك.

 

لم يندّد فروندليش بالحرب بصفة راديكالية كما فعل الدادائيون، بل كان يريد اتقاءها من خلال أعماله التجريدية كما أكّد كادينسكي في كتابه “الروحانية في الفن”.

وما لبث أن صارت له مكانة مرموقة في الوسط الفني كواحد من رواد التجريدية، وأصبح عضوا فاعلا في مجموعة “تجريد-خلق” عام 1931، حيث تقرّب من تيو فان ديسبورغ ، أحد منظري الفن الهولندي ومؤسّس حركة “ستيل”. فلما سطع نجمه، بات محط أنظار الرايخ الثالث، الذي صنفه كـ”يهودي بلشفي”، وجعل منحوتته “رأس كبير” في صدارة المعرض الذي أقامه النازيون في ميونخ عام 1937 كدليل على انتمائه إلى “الفن المنحرف” بعد أن غيروا عنوان المنحوتة الأصلي بـ”الإنسان الجديد”.

وقد تصدّى أصدقاؤه لهذه الهجمة الشرسة، فنظموا له في العام الموالي معرضا فنيا دفاعا عنه، كما سانده بيكاسو عند إعداده لوحة “تحية إجلال إلى الشعوب الملوّنة”، إذ عدّها مانيفستو ضدّ الفاشية والنازية لا يقل قيمة عن لوحته هو “غيرنيكا”.

غير أن النازية كانت راصدة له، فقد أوقِف وسُجن مرة أولى عام 1940، ثم أطلق سراحه بتدخل شخصي من بيكاسو، ما دفعه إلى مغادرة باريس صحبة خليلته واللجوء إلى بلدة سان بول دو فينويي بمقاطعة البرانس الشرقية، ولكن أحد جيرانه وشى به إلى القوات النازية حين بدأت تلاحق اليهود في فرنسا زمن حكومة فيشي، فتمّ نفيه إلى معتقل سوبيبور ببولندا، حيث قتل عام 1943.

وبذلك أجهض مشروع “منارة الفنون السبعة” الذي يضمّ أعمالا في النحت والهندسة المعمارية، أراده رمزا لنشر السلام بين الشعوب عن طريق الفن، وتجسيده على أرض “أوفير سور واز” بمقاطعة فال دواز شمالي باريس، حيث يرقد مَثلُه الأعلى في الفن فانسان فان غوخ، وهي المقبرة التي دفنت فيها جان كوسنيك كلوس وفاء لرغبة صديقها التي لم تتحقّق.

 

  • كاتب تونسي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي