تولستوي في مواجهة البوليس

2020-07-13

جينيفر ويلسون - ترجمة: د. سعد البازعي

في الأشهر الأولى للحظر، وجد الكثير من الناس أنفسهم يتجهون، تحت الحظر المنزلي، إلى مصادر غير عادية لتخفف عنهم: عروض حاكم ولاية نيويورك أندرو كوومو على «باور بوينت»، وعمل الخبز (لا سيما، ولأسباب غير واضحة، «الساوردو»)، ورواية «الحرب والسلام» لليو تولستوي ذات 1.200 صفحة حول عصر نابليون في روسيا.

كما هو متوقع ربما وجد القراء أنفسهم، وهم يتجمعون على الإنترنت حول هاشتاغ #TolstoyTogether (#تولستوي معاً)، منجذبين إلى كتاب حول بلاد تعاني من الترقب والناس العاديون فيها يخضعون لأمزجة زئبقية لقادة سياسيين عاجزين. على الرغم من قوتها الأدبية، وثقل وزنها (يشار عادة إلى الناحية الأخيرة لتفسير تحول الكتاب إلى ترويح مثالي عن النفس وسط جائحة)، بدت لي «الحرب والسلام» ليست متطرفة بما يكفي للحظة الحاضرة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار المساحة العريضة لفكر تولستوي الاجتماعي.

 

الناس يعودون إلى مصادر غير عادية تحت الحظر المنزلي

في الأيام الأولى للجائحة، وجدت نفسي أكثر انجذاباً إلى «موت إيفان إليتش» (1886)، أقصوصة تولستوي حول موظف بلاط ثري وطموح يستسلم لمرض يعجز عن فهمه الأطباء؛ يجد إليتش في المرض وضوحاً - يدرك إلى أي درجة مجتمعه قائم على تقدير الأرباح أكثر من البشر.

كان تولستوي منجذباً للباحثين، للشخصيات الواقعة باستمرار في أزمة روحية؛ وصفهم جورج أورويل بالأشخاص الذين «يصارعون لصنع أرواحهم». تولستوي بالفعل رأى حالات طارئة، سواء كانت شخصية أو اجتماعية، بوصفها انقطاعات ضرورية يمكنها أن تشعل مساءلات أعمق للمجتمع والمعتقدات التي تدعمه. في مذكراته «اعتراف» (1882)، التي تسجل عودة وعيه الروحي، وصف تولستوي شعوره كما لو أن الأرض قد انهارت. فليس غريباً إذن أن يجد القراء ما يدفعهم من جديد لقراءته في وقت ألهمت فيه التفاوتات العرقية والاقتصادية، التي بينها «كوفيد 19»، وما ارتكب البوليس من قتل، أعداداً غير مسبوقة من الناس لأن يسائلوا بعض الأساطير المؤسِّسة التي قامت عليها هذه البلاد. بدعوات لإيقاف الدعم عن البوليس، بدأ الكثيرون يسألون، للمرة الأولى في حياتهم، ليس عن كيفية عمل المؤسسات فحسب، وإنما أيضاً عما إذا كان ينبغي لها أن توجد أصلاً.

أحد باحثي تولستوي ممن وجدوا أنفسهم على طريق مشابهة، هو إيفان فاسيلييفتش، بطل القصة القصيرة «بعد الحفلة» (1903). إيفان أحد شباب المجتمع، ويقع في حب ابنة كولونيل، ثم يخطط للانضمام للجيش، لولا ما يحدث أثناء قيامه بالمشي ذات صباح. كان قد أمضى الليلة السابقة في حفلة في المدينة يرقص مع الابنة، وهي شابة نحيلة جميلة اسمها فارينكا. يقول إيفان متأملاً: «مع أنني أحب الشمبانيا لم أشرب، لأنني، بدون أي نبيذ، ثمل بالحب». غير أن إيفان ثمل أيضاً بحب والد فارينكا، وهو رجل عليه سيماء اللطف والتهذيب، يلبس، كما يلاحظ إيفان، حذاءً بسيطاً في الحفلة لأنه يفضل أن ينفق ما يفيض من ماله على ابنته. بعد الحفلة، يعود إيفان إلى بيته، ولكنه مسحور بالحب إلى حد عدم القدرة على النوم.

بدلاً من النوم يقرر إيفان أن يتمشى في شوارع مملوءة بالثلوج باتجاه منزل فارينكا، ولكنه حين يصل يجد مشهداً يوقعه في حيرة شديدة: «جنود بملابس عسكرية سوداء يقفون في صفين متواجهين، يمسكون ببنادقهم إلى جانبهم دون حراك. خلفهم يقف قارع الطبل وعازف الناي، يكررون النغمة الحادة ذاتها». إنه قصاص عسكري والمتهم، ضابط تتري شاب (كان التتار أقلية إثنية في روسيا) يتعرض للعقاب بسبب الهرب من الخدمة. ينظر إيفان، متجمداً وهو يرى جسد الشاب ينزف: «كان جسده كله يضطرب، قدماه تضرب مياه الثلوج الذائبة، والشاب المعاقب يتحرك باتجاهي تحت وابل من اللكمات». يرى إيفان أن الكولونيل الذي يقود المسيرة ليس سوى والد فارينكا، الرجل الذي كان لساعات قليلة خلت يظنه رجلاً محباً وعطوفاً. يهرب إيفان محاولاً دون جدوى أن ينسى ما شاهده للتو. لكن لا فائدة: يسمع إذ يحاول النوم استجداء الضابط: «الرحمة يا إخوتي». يقرر إيفان ألا ينضم للجيش، متسائلاً عما إذا كان من الممكن له أن ينتمي إلى مجتمع لا يُسمح فيه بعنف كهذا فحسب، وإنما تقره الحكومة أيضاً.

كُتبت قصة «بعد الحفلة» في الفترة التي يسميها الدارسون مرحلة ما بعد التحول الديني لدى تولستوي، المرحلة التي ابتدأت حوالي 1879 عندما بدأ يلتفت بعيداً عن الرواية، ويركز على الممارسات السياسية لمعتقده المسيحي (التي تمظهرت في نوع من الفوضوية/ أناركي). أثناء تلك الفترة، التي شكلت حوالي الثلاثة عقود الأخيرة من حياته، كتب تولستوي أبحاثاً ومقالات قوية تدعو لإلغاء الملكية الشخصية والدولة وإنهاء الخدمة العسكرية.

آراء تولستوي، لا سيما تحريضه القوي ضد العنف المدعوم من قبل الدولة، أثار غضب المسؤولين الذين وضعوا الكاتب نتيجة لذلك تحت رقابة البوليس شبه الدائمة. أعماله الأخيرة منعتها الرقابة الروسية، وتوفرت في المقام الأول خارج روسيا عن طريق الترجمة. بل إن موقفه المعارض للحرب ذكر على أنه سبب في حرمانه من جائزة «نوبل» في الأدب. رفض سكرتير الأكاديمية السويدية ترشيحه لأسباب منها أنه بمواعظه السلمية «أنكر حق الأفراد والشعوب في الدفاع عن نفسها».

تنتمي «بعد الحفلة» في الواقع إلى فصل متأخر من نقد كان يغلي لفترة طويلة وجهه تولستوي ضد عنف الدولة. كتب في مذكراته، حين كان جندياً يحارب في القوقاز، وبعد ذلك في القرم، عن مشاهد مزعجة للعنف شاهدها عن قرب. كان المقصود من «الحرب والسلام» أن تكون، من عدة نواحٍ، تصحيحاً للتواريخ الشعبية والحكايات المتخيلة حول الحرب التي مجدت المعركة؛ أظهر تولستوي الحرب بدلاً من ذلك على أنها مشتِّتة، فوضوية، ومهينة. تحولت تلك الآراء فيما بعد إلى نقد واسع لاستعمال العنف الذي رأى أنه يؤدي للحفاظ على النظام الاجتماعي الذي يفيد الطبقات الغنية والحاكمة.

كتب فيما بعد أن «العنف لم يعد يعتمد على الاعتقاد بفائدته العملية، وإنما على حقيقة أنه موجود منذ زمن بعيد، وأن الذي ينظمه هم الطبقات الحاكمة التي تستفيد منه». آراء تولستوي المتأخرة عُدت خطرة بشكل خاص لأنه، جزئياً، لم يكن يطالب بمجرد الإصلاح، وإنما بإلغاء المؤسسات التي يحفظها ويقودها استعمالُ القوة.

كتب رتشارد غوستافسون، مؤلف «تولستوي: مقيم وغريب» (1986)، أنه بالنسبة لتولستوي كان معنى اللاعنف «رفض القسر من حيث هو غراء الكومنولث». طلب تولستوي أن نتبنى أنماطاً من الحياة الاجتماعية بدلاً من ذلك، أنماطاً متجذرة في الحب والأخوة والدعم المتبادل. لربما أن الدعوات التي نسمعها هذه الأيام لإيقاف تمويل البوليس، أو إلغاء أقسامه قد تسمع أيضاً بطريقة مشابهة - بوصفها دعوات للحب. الناشطون الذين يطالبون بتجريد أقسام البوليس من الدعم يلحون على أن يعاد توزيع الأموال نفسها لتصل منظمات تدعم سياسات تفيد الفقراء، المرضى العقليين وأولئك الذين يفتقرون إلى السكن الآمن.

نداء «الرحمة يا أخوتي» سيلاحق إيفان فاسيلييفتش بقية حياته مثلما تلاحقنا اليوم توسلات للتنفس وللألم. علينا أن نستجيب لتلك التوسلات بالحب الذي يذكرنا تولستوي بأنه يعني اقتلاع ما هو ضد الحب.

- عن «نيويورك تايمز»،

25 يونيو (حزيران)، 2020.

والكاتبة تحمل درجة الدكتوراه

في الأدب الروسي

من جامعة «برنستون» الأميركية

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي