المجتمعات العربية أضرت بنفسها حين أقصت الآخر المختلف عنها.

التنوع الديني والإثني دافع للعيش المشترك بين الشعوب

2020-07-10

تزايد الأعراق والأديان والقوميات مرحب به

لندن - إذا كان التنوع القومي والعرقي والديني يعتبر ثروة بشرية وثقافية في العديد من دول العالم فإنه في غالب الأحيان يمثل مصدر قلق وتوتر في معظم دول الوطن العربي على امتداده من المحيط إلى الخليج.

فعلى مدى هذه المساحة الشاسعة عاشت مجتمعات منذ المئات من السنين، مكونة من أقليات عرقية، من أمازيغ وأكراد وعرب، ودينية، من مسلمين ومسيحيين ويهود، في وئام وشكلت مكونات رئيسية لنسيج اجتماعي بدا منسجما.

غير أن العلاقات بين هذه المكونات ساءت في العديد من الأحيان في السنوات القليلة الماضية وأضحت مصدر صراعات من أجل حماية الهوية. صراعات سياسية وعسكرية هددت وتهدد سلامة ووحدة أراضي عدد من الدول العربية، تحولت بعضها إلى قوة مدمرة.

ويقول المفكر التونسي صلاح الدين الجورشي “التنوع أو التعدّد، ليس بالظاهرة الجديدة في العالم العربي والإسلامي، بل هو جزء من البنية الاجتماعية والتاريخية لهذه المنطقة الاستراتيجية. لقد حدثت في الماضي بعض المشكلات والصعوبات، لكن ذلك لم يكن مبرّرا للتفكير في احتمال استئصال الأقليات أو منع مظاهر التعدّد المختلفة في هذه المجتمعات، بل على العكس من ذلك، حمى الإسلام والدولة حق الاختلاف، وذلك من خلال الإقرار بحرية الدين والتدين”.

وأضاف “لقد أصبحت إدارة التنوّع في معظم الدول العربية، أحد التحديات الرّاهنة التي فرضت نفسها على الجميع ودفعت بأصحاب الفكر والقرار وكذلك حركات المجتمع المدني إلى جانب المؤسسات الدولية، إلى تكثيف المبادرات من أجل الوعي بخطورة هذه المسألة والاستعداد لمعالجة تداعياتها، كخطوة أساسية نحو احتوائها”.

ولأهمية الأمر، جاء الإعلان العالمي لحماية التنوع الثقافي، الصادر عن هيئة اليونسكو في الدورة الـ31 للمؤتمر العام، سنة 2001، ليضع قاعدة قانونية دولية تلزم الدول الأعضاء باحترام التنوع الثقافي بكل أشكاله، وعرفت وثيقة اليونسكو “التنوع الثقافي” بأنّه “تراث مشترك للإنسانية يتجلى في أصالة الهويات المميزة للمجموعات والمجتمعات، التي تتألف منها الإنسانية. والتنوع الثقافي، بوصفه مصدرا للتبادل والتجديد والإبداع، هو ضروري للجنس البشري، ضرورة التنوع البيولوجي بالنسبة إلى الكائنات الحية”.

وأكد الإعلان أنّ السياسات التي تشجع على دمج كلّ المواطنين، ومشاركتهم، تضمن التماسك الاجتماعي وحيوية المجتمع المدني وتحقيق السلام، وبهذا المعنى تكون التعددية الثقافية هي الردّ السياسي على واقع التنوع الثقافي، كما أنّ التعددية الثقافية التي لا يمكن فصلها عن الإطار الديمقراطي، مواتية للتبادل الثقافي ولازدهار القدرات الإبداعية التي تغذي الحياة السياسية.

وقد خلصت دراسة أعدها مركز بيو للأبحاث إلى أن معظم الناس يعتقدون أن التنوع يحسن الحياة في بلدانهم. تعليقا على نتائج الدراسة، نشر موقع “بيج ثينك” تحليلا أعده كيفين ديكنسون، المهتم بالشؤون الدينية، استهله بالإشارة إلى أن الدراسة شملت أكثر من 28 ألف شخص على مستوى 11 بلدا ناشئا.

  تكفي نظرة إلى العناوين الإخبارية أن تدفع المرء إلى الاعتقاد بأن العالم خسر أمام القبلية والكراهية، لكن بعكس التقارير الإخبارية التي تنقل جانبا واحدا فقط من القصة، وغالبا الجزء الأكثر رعبا والأكثر تطرفا، تشير دراسة حديثة أعدها مركز بيو للأبحاث استطلعت آراء 28 ألف شخص من 11 بلدا منها لبنان والأردن وتونس إلى أن التنوع الإثني والتعددية يغنيان المجتمعات ويجعلان الناس أكثر تقبلا للاختلاف أكثر من أي وقت مضى.

وأظهرت بيانات الدراسة أن معظم الناس يعتقدون أن المجموعات العرقية والوطنية والدينية المختلفة حسّنت حياة الناس في بلدهم. وكان الشباب أكثر أريحية للنظر إلى التنوع نظرة إيجابية، فضلا عن أولئك الذين حصلوا على مستويات أعلى من التعليم.

ويضيف ديكنسون “خلال السنوات القليلة الماضية، شهدنا مسيرة للمتعصبين البيض تجوب الشوارع الأميركية، وقوى متطرفة تستهدف مواقع ثقافية تعد بمثابة تذكير بتراث البشرية المشترك، ودور عبادة تتعرض لأعمال إرهابية، وأقليات تتحمل مسؤولية الخرافات المنتشرة حول مصادر فايروس كورونا المستجد ويُعتدى عليها بسببها، وقيادات تقترح عددا لا يحصى من المحاولات لرفض اللاجئين والمهاجرين.

هذا جزء من واقعنا اليوم، ولكن من الجدير بالذكر أن العناوين الإخبارية ليست تحليلا لاتجاه ما، بل هي مجموعة من التقارير والحالات التي تخبرنا عن جانب واحد فقط من قصتنا، وغالبا ما يكون هذا الجانب هو الأشد ترويعا والأكثر تطرفا”.

وبعيدا عن دفع النزعة العالمية وأخلاق التنوع إلى الهوامش، ربما تتمتع هذه القيم بازدهار وفقا للبيانات التي استقاها مركز “بيو” للأبحاث من 11 بلدا ناشئا.

وقد أجرى المركز دراسة استقصائية شملت 28 ألف شخص على مستوى كولومبيا، والهند، والأردن، وكينيا، ولبنان، والمكسيك، وتونس، وفنزويلا، وفيتنام، وجنوب أفريقيا، والفلبين، بشأن آرائهم حول التنوع داخل حدودهم. واختيرت هذه البلدان بناء على حالة متوسط الدخل، وتفاوت درجات ملكية التكنولوجيا، وارتفاع مستويات الهجرة (سواء داخلية أو خارجية).

وطرحت الدراسة الاستقصائية أسئلة على المستجوبين تتعلق بكيفية تقييمهم لتزايد أعداد من الأعراق والأديان والقوميات الأخرى، ومعرفة أثر ذلك على نوعية الحياة في بلدانهم. ووُجِهَت أسئلة إضافية تناسب ديموغرافية كل بلد وظروفها الفريدة.

على سبيل المثال، وُجه إلى المستجوبين في الفلبين سؤال عن كيفية نظرهم إيجابيا إلى المسلمين والمسيحيين، بينما سئل التونسيون عن السنة والشيعة. وسئل آخرون، في المكسيك ولبنان، عن طالبي اللجوء الذين يفرون من بلدانهم.

وخلص مركز بيو إلى أنه “عبر البلدان الـ11 التي شملتها الدراسة، أوضح كثيرون أن بلدانهم أفضل حالا بفضل العدد المتزايد من الأشخاص ذوي الأعراق والمجموعات الإثنية والقوميات المختلفة الذين يعيشون هناك”. بينما أشارت أقلية إلى أن هذه الزيادة لم تحدث فارقا، ولفتت حتى أقلية أصغر حجما إلى أن بلدها ازداد وضعه سوءا.

أفضل للعيش


عند النظر إلى النتائج الفردية المستقاة من كل بلد على حدة، تصبح الصورة أكثر وضوحا، إذ وافق غالبية المستجوبين من الهند، وكولومبيا، والفلبين، وكينيا، وفنزويلا، على عبارة أن “زيادة التنوع جعلت بلدانهم مكانا أفضل للعيش”. وعلى النقيض وافقت أقلية على العبارة ذاتها في تونس، والمكسيك، والأردن، ولبنان.

وربما تنبثق أسباب هذا التباين ليس فقط من الانقسامات التاريخية العميقة ولكن أيضا من الأحداث الراهنة.

ولبنان، الذي يعتنق أكثر الآراء السلبية عن التنوع من بين الأحد عشر بلدا، استقبل ما يقدر بـ1.5 مليون لاجئ سوري، وهو تدفق ضخم بالنسبة لبلد يبلغ عدد سكانه 7 ملايين نسمة.

على مدى الوطن العربي عاشت مجتمعات منذ المئات من السنين، مكونة من أقليات عرقية ودينية، في وئام وشكلت مكونات رئيسية لنسيج اجتماعي بدا منسجما

والأردن أيضا شهد موجة هائلة من طالبي اللجوء من البلدان التي مزقتها الحرب الأهلية. وأيضا رأى المستجوبون فيه أن الأعداد المتزايدة من الأشخاص المختلفين زادت الحياة سوءا في بلدهم.

فيما شهدت المكسيك أيضا زيادة في عدد طالبي اللجوء من بلدان أميركا الوسطى، مع أن وجهة النظر الشاملة في هذا البلد لم تكن مواتية كما في الأردن أو لبنان.

ومع ذلك فالمكسيك هي البلد الوحيد في المجموعة التي لديها أغلبية ترى أن زيادة التنوع العرقي والديني لم يحدث فارقا في نوعية الحياة. وتبنى نحو نصف أولئك الذين شملتهم الدراسة وجهات نظر سلبية تجاه اللاجئين.

ولكن بينما أدت الاضطرابات الحالية في بعض المناطق إلى توتير العلاقات، فإن القصة برمتها لا تقتصر على أن اللاجئين والمهاجرين يتبنون آراء سلبية تجاه الآخرين، إذ تختلف وجهات النظر اختلافا كبيرا. وعلى سبيل المثال، تبقي كينيا على مخيمات لاجئين كبيرة تؤوي طالبي لجوء من الصومال وجنوب السودان، مع أن نصف المستجوبين للدراسة في البلاد قالوا إن هذا الوضع الذي يتميز بالتعددية الثقافية حسّن الحياة في بلدهم. فيما اعتنق غالبية المستجوبين آراء متقبلة للاجئين.

وعلى المنوال ذاته، بحسب التحليل، قيّم نحو نصف المستجوبين من فنزويلا، وفيتنام، والأردن، مجموعات المهاجرين واللاجئين تقييما إيجابيا.

وعلى الرغم من أن غالبية الأردنيين يعتقدون أن زيادة التنوع يجعل الوضع في بلادهم أسوأ، إلا أنهم مع ذلك يعتنقون وجهات نظر متقبلة للاجئين.

ويخمن الباحثون أن هذا التباين ربما ينبثق من حقيقة أن الأردن يستضيف مجموعتين كبيرتين من اللاجئين: اللاجئين السوريين الجدد، واللاجئين الفلسطينيين الموجودين في البلاد منذ صراعات منتصف القرن العشرين.

وخلص الباحثون إلى أن الأردنيين الذين يعرّفون أنفسهم بالفلسطينيين نظروا إلى اللاجئين بصورة إيجابية.

التعود

يطرح التحليل سؤالا: وبناء عليه، ما الذي يؤدي إلى تحسن وجهات النظر المتعلقة بالتعددية الثقافية؟

ويجيب: وفقا لبيانات مركز بيو، فإن أولئك الذين يعتنقون وجهات النظر الأكثر إيجابية حول التنوع العرقي والإثني والديني كانوا أولئك الذين تفاعلوا بشدة مع هذه المجموعات. فالمزيد من الاتصال يعني المزيد من وجهات النظر الإيجابية.

وفي كافة البلدان، كان البالغون الأصغر سنا أكثر أريحية للتفاعل مع أشخاص ذوي خلفيات مختلفة، وباستثناء الأردن، اعتنقوا أيضا وجهات نظر أكثر إيجابية عن الآخرين. وينطبق الشيء ذاته على أولئك الذين حصلوا على مستويات أعلى من التعليم.

وتتوافق هذه البيانات مع ما توصلت إليه دراسة استقصائية أخرى أجراها مركز بيو، وطرح فيها الباحثون أسئلة على الأميركيين حول وجهات نظرهم بشأن زيادة التنوع العرقي والإثني.

وقال نحو 58 في المئة من الأميركيين إن زيادة التنوع ستجعل الولايات المتحدة مكانا أفضل للعيش. وأوضح فقط 9 في المئة منهم أنها ستزيد الوضع في البلاد سوءا، بينما أكد 31 في المئة منهم أنها لم تحدث فارقا. وانقسمت الآراء على أسس حزبية، مع المزيد من الديمقراطيين الذين ينظرون إلى هذه العبارة بإيجابية أكثر من الجمهوريين.

يقول ديكنسون ”ولكن على غرار الأحد عشر بلدا ناميا، تباين الأميركيون بحسب السن والتعليم، أيضا؛ إذ اعتقد 15 في المئة من المستجوبين ممن يبلغون 65 عاما، ومن هم أكبر، أن التعددية الثقافية المتنامية جعلت الأوضاع في الولايات المتحدة أكثر سوءا، وهي أعلى من أي فئة عمرية.

للتعايش وجوه كثيرة

ونظر 70 في المئة من خريجي الجامعات إلى التنوع نظرة إيجابية، مقارنة بـ45 في المئة من أولئك الذين حصلوا على دبلوم المدرسة الثانوية أو الحاصلين على تعليم أقل”.

أخلاق التنوع

تشير هذه البيانات إلى أن العالم لا يخضع لعهد جديد من القبلية والكراهية، بل إنه بعيد عنهما. وفي الحقيقة، تنتشر معتقدات النزعة العالمية وأخلاق التنوع عبر العديد من البلدان الناشئة في العالم، ومن المرجح أن تزيد كلما أصبحت الأجيال اللاحقة أكثر تعليما واندماجا. ربما يكون ذلك التقدم غير متكافئ، لكنه حقيقي ويمكن قياسه.

يتابع الكاتب “إن تقدير التنوع، أو حتى التطلع إليه لن ينهي الأحداث المأساوية التي ولدت عناوين لافتة للنظر، لكنه يمكن أن يجعلنا أكثر قدرة على إدارة مستقبلنا المشترك”.

واختتم الكاتب تحليله مستشهدا بما كتبه الفيلسوف كوامي أنتوني أبيا في كتابه “النزعة العالمية: أخلاق في عالم الغرباء”، “ينبغي أن نتعرف على الأشخاص الموجودين في أماكن أخرى، وأن نهتم بحضاراتهم ومناقشاتهم وأخطائهم وإنجازاتهم، ليس لأن هذا سيصل بنا إلى اتفاق، ولكن لأنه سيساعدنا على التعرف على بعضنا البعض”.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي