شانغ تاي أول مصاب بفيروس كورونا

2020-06-30

ميغيل مالذوناذو

قال زوانغ جو: "انظر للأسماك في النهر وهي تسبح
هنا وهناك بفرح".
ردّ ويزي: "أنتَ لست سمكة، فكيف تعرف أنّ الأسماك سعيدة".
أجاب زوانغ جو: "أنت لستَ أنا، فكيف تعرف أنّني لا أعرف أنها سعيدة".
زوانغ جو

 

بدأ كلُّ شيء بسبب قطرة منسكِبة من أحشاء خفّاش وصل مريضاً إلى سوق الأغذية، قطرة صغيرة مُصابة خرجت من تحت ظفر جزّار شاب.

في أحد صباحات أيلول، كان من المتوقَّع أن يكون الجوُّ بارداً في مقاطعة أوباي، ما حمل سكّان ووهان على طلب شوربة الخفّاش التقليدية الساخنة مع الزنجبيل للغداء.

مَن أكل من تلك الشوربة خلال أيام العدوى أكَّد أن طعمها كان طبيعيّاً، بل كانت لذيذة كالعادة، رغم ما نعرفه عن قدرة الزنجبيل على إخفاء النكهات السيّئة.

لم يجد شانغ تاي غرابةً في ذلك الصباح الذي توجّه فيه إلى عمله في السوق الرئيسي، حيث يقطّع يومياً عشرين كيلوغراماً من لحم الخفّاش. لم يدرك الرائحة التي أطلقها اللحم الخبيث ولا خدشاً أسفل ظفر إبهامه، تسبّب فيه نزوله السريع من الباص العمومي. عبر ذلك الخدش تحديداً، تسلّلت قطرةٌ تحمل فيروس كورونا.
شعر شانغ تاي بأن الجوَّ باردٌ أكثرَ من العادة في ذلك الصباح. طلبت المطاعم المحيطة بالسوق المزيد من اللحم بسبب الطلب المتزايد على الشوربة الساخنة. كان على شانغ تاي أن يعمل ساعات إضافية حتى تسلّخ جلد يديه. سلخَ جلود ضعف عدد الحيوانات المعتاد، وثقب عظامها. وخلال أكثر من 12 ساعة، كان قد ذبح مئات الخفافيش البرية العملاقة التي تتّخذ من شقوق الكهوف والخنادق المحيطة بها، مساكن. في نهاية اليوم، كان التعب بادياً على عينيه ومنعكساً في العيون المطفأة لتلك القوارض. شعر بأنه قد انطفأ مثل نظرات الخفافيش الزائغة. ردّد مرّات عدّة: "سواء كانت ميتة أم حيّة، لديها دوماً تلك النظرة الغامضة".

لم يكن شانغ تاي يعلم أن الخفّاش المريض كان من ضمن الشحنة التي وصلت مساء اليوم السابق في تمام الساعة السادسة، كما جرت العادة. لم ير شيئاً غريباً حينما أخرج أحشاء الذبيحة. لم يميّز اللون الأخضر الذي صبغ اللحم الذي أوشك أن يفسد. وهكذا، غير مدرك لشيء، سار إلى بيته في وقت متأخّر من الليل. عبَرَ المدينة بنفس الطريقة التي عبَر بها الفيروس جسده، ببطء.

خلال تناوله العشاء، حدّث عائلته عن عيون الخفّاش المكفهرّة. كان قد حدّثهم عن ذلك آلاف المرّات: "كيف يمكن لحيوان يتغذّى على الفاكهة أن تكون عيونه مطفأة هكذا؟ كأنما يأكل الجيف لا الفاكهة، بل كأنه نسر يتغذّى على الجيف ذات الريش الملوّن". وعادة ما تعلّق أخته الصغيرة على كلامه: "أو كأن النحلة التي تنتقل من زهرة لأخرى، ذبابة".

في الأسابيع اللاحقة بدأت أعراض الإنفلونزا تظهر على أقرانه في العمل، بينما ساعده سنّه الشاب في تأخير ظهور الأعراض ليومين. وفي غضون ثلاثة أسابيع كان جميع عمّال السوق مصابين بالفيروس.

أجبرتهم وزارة الصحة على إغلاق المحلّات، وافترض خبراء الأوبئة أن بؤرة المرض انتشرت تحديداً من مكانه، ولم يشكّوا في أنه أوّل المصابين بالمرض. كان أقرانه يشعرون بالذنب، إذ ظنّ كلّ منهم أنه من نقل الفيروس. ولهذا، فقد أجروا فحصاً ذاتياً لتحديد اللحظة التي أصيبوا فيها بالفيروس. حين رأى فزعهم قرّر أن يعترف بالحقيقة: حدَّثهم عن ذلك اليوم الذي عمل فيه لساعات إضافية، واعترف أنه وجد قتامة غير مألوفة في أحد الخفافيش دون أن يعير الأمر أهمية، لكنه اعتقد حينها أنّ الإرهاق الشديد جعله يرى الحيوانات على نحوٍ غريب. "كان ذلك بسببي، لا تعذّبوا أنفسكم أكثر".

غرق في الحزن بعد وفاة شينغ، أكثر أقرانه قرباً منه، والذي ساعده منذ عام على إيجاد عملٍ كان في أمس الحاجة إليه. أحس بالأسف لأنه لم يستفد من تجربة شينغ شيئاً. كان شينغ قد علّمه كيف يميّز اللحم الطازج، وكيف يتعرّف بنظرة سريعة على صحّة الحيوانات النافقة، وكيفية تشخيص الجلد المصاب، فهناك اختلاف بين الجثث أيضاً. النور الباهت في العيون واصطباغ الجلد هي مؤشّرات على ميتة جيّدة أو سيّئة. لم تنفعه هذه السنوات التي ترقّى في العمل خلالها ليصبح مسؤول طابق، لأنه كان الأفضل في تمييز صحّة الجثث "جثّة ذات ميتة جيّدة أو سيّئة"، كما يقولون في النقابة.
في أعماق نفسه ظل يتحسَّر على أن صديقه، مَن كان بمثابة أخيه، لم يحظ بميتة جيّدة، بل بميتة مريضة حرصوا خلال سنوات على اكتشافها وتجنّبها.

أُغلقت ووهان وأعلنتها السلطات مدينة طوارئ. غطّى الناس وجوههم بالكمّامات وحافظوا على إبقاء مسافات كافية بينهم. ورغم أن المرض لم يتطوّر لدى شانغ تاي، إلّا أنه قرّر البقاء في المنزل ومتابعة الأخبار عبر التلفاز. كرّس وقته لرعاية أخته التي ارتفعت حرارتها وبدأت تشكو من أعراض التهاب رئوي. كانت لديه مهمّة واحدة، أن ينقذها مهما كان. وبتلك القناعة الراسخة، تمكَّن من الحصول على أدوية لتقوية جهاز المناعة وخاصة مضادات التهاب الرئة.

ظلّ يراقب أخته والخبو البطيء لنور عينيها. لاحظ جفاف وجهها وعاين التغيّرات الصغيرة التي أثّرت على محيّاها. قلّة من أمثاله في ووهان يستطيعون متابعة تدهور الجسد لحظة بلحظة، بيد أنه هذه المرّة لم يكن يراقب جسداً سيجزّ لحمه أو سيتخلّص منه لاحقاً، كما كان يفعل في السوق، بل كان يراقب وضعها عن كثب، لأنها الطريقة الوحيدة التي تعلّمها لاكتشاف المرض.

مرّ شانغ تاي بأيام عصيبة يائسة ظلّ خلالها يلوم نفسه على ما حدث في العالم. لم يكن يتمنّى فقط لو أنه ما عمل قطُّ في سوق الأغذية، بل لو أنه لم يولد. عذّبه التفكير في الموت الذي كان من الممكن تجنبه لو أنه وثِق أكثر بحواسه، لو أنه تخلّص من آثار التعب مساء يوم العمل الطويل ذاك. حينما كان يخرج إلى الشوارع لشراء الأدوية، كان يطلب المغفرة في قرارة نفسه من المارّة، وإن شعر أن أحدهم مريض، يطلب منه التوجّه فوراً إلى طبيب يثق به، طبيب يعرف جيّداً تشخيص الجسد المريض، كان يُصرّ "أرجوك، لن تخسر شيئاً، اذهب".

في الأيام التي انتشرت فيها الجائحة في ووهان، كان شانغ تاي يحلم بفيلق من الخفافيش تجتاح منازل المدينة بحثاً عن دماء، كانت تهجر الثمار لتتقدّم نحو الشوارع وتهاجم الناس الذين نزفوا حتى الموت، يحلم بآلاف مصّاصي الدماء الحائمين في الجو وفوق الشوارع مثل غيمة سوداء ضخمة، باثّين الرعب أينما توجّهوا.

المشهد الدموي في كوابيسه لم يكن مختلفاً عمّا كان يحدث يومياً في سوق الأغذية، إلّا أنه وفي أحلامه، كان مصاصّو الدماء هم من يذبح الناس ويقتلونهم ويهاجمون المدينة حتى تصبح آثار خراب. في أحد أحلامه انتقموا بشكل قاسٍ لطالما اعتادوا على تحمّله، العين بالعين والسن بالسن.

هو الواقعُ نفسه. انتقم فيروس كورونا للخفافيش. إذ لن يجرؤ أحد على أكلها بعد ذلك. انتهى زمن الصيّادين الأوغاد. ستعيش الخفافيش أخيراً بسعادة في خنادقها. وبعد قرون عديدة من معاناة قطع الرؤوس، ها قد وجدت طريقة الخلاص وإنقاذ نفسها، هذا ما أكّده شانغ تاي لأخته: "فيروس كورونا هو انتقامها، تنتقم منِّي، منَّا، من المعاناة التي سبَّبناها لجنسها".

- وأنتَ؟ كيف تعرف كيف تُفكِّر الخفافيش إن لم تكن واحداً منها؟

- كيف تعرفين أنني لا أعرف إن لم تكوني أنا؟

- أنتَ لست خفّاشاً. أنت متأثِّرٌ بكوابيسك، لستَ المسؤول عما يحدث، كان على هذا أن يحدث".

- "أنتِ لا تفهمين شيئاً، لأنك لم تكوني يوماً قريبة منها. تحتفظ أجسادها الباردة بالألم والحقد. ذلك انتقام الحيوان".

- "كلّا، ليس سوى وباء تعاني منه البشرية، لا معنى لحديثك".

وللمرّة الأولى، تفهم أخت شانغ تاي ما قصده حين تذكّرت حديثه عن نظرة الخفّاش الشاحبة. للمرّة الأولى فهمت ما عناه عن نظراتها التائهة، الزائغة، تساءلت: "أكانت ميتة أم حيّة؟".

 


* شاعر وكاتب وأكاديمي مكسيكي من مواليد مدينة بويبلا عام 1976. حاصل على دكتوراه في نظريات الثقافة. من أعماله الشعرية: "قصائد السِّحر الحالي"، "الجسد الخاص"، "القلعة"، "الوظائف الجيّدة"، "توقيف"، "420 ضربة"، "نقطة (مع صورة بيانيّة لكاتسومي كوماجاتا)"، "ذئاب وأكتافيو باث: تكريم ونقد". وصدرت مجموعته "كتاب الحرف الحزينة" (ترجمة: غدير أبو سنينة) بالعربية عن "دار أثر" عام 2016.

** ترجمة عن الإسبانية غدير أبو سنينة







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي