"سيرك يمر" لباتريك موديانو .. مغامرة متحررة من قيود المنطق

2020-06-23

نسرين بلوط*

هناك الكثير من القراء الذين يتمتعون بذائقة نادرة لحب فن المغامرة، سواء فنيا أو أدبيا أو إنسانيا. وقد وجدت رواية «اللص والكلاب» للأديب نجيب محفوظ رواجا كبيرا، وقد كتبت في حيز النمط البوليسي التشويقي، الذي اعتمد على مبدأ التصاعد الاستدراجي لمخيلة المتلقي، لينتقل مع شخوص الرواية إلى عالمٍ مزدوج الآفاق يستند إلى هيكل الغواية البصرية الحابسة للأنفاس، كما تعتبر رواية «دونكيشوت» لسرفانتس أول رواية تخضلت بخصائص فنية جمالية، لأنها اعتمدت فن المغامرة، فتبلورت اللغة من الرتابة والنظام الصارم، إلى البعثرة والجودة السردية الواقعية الممتزجة بأطياف الخيال.

في رواية «سيرك» لباتريك موديانو، عودة لفن المغامرة الكلاسيكية، والاتجاه نحو السرد المفصلي، حيث تتبلور الحبكة لتعقبها صدمة لا احتوائية للموقف، فقد بدأت القصة باستجوابٍ للبطل من قبل محقق الشرطة، عن شخصٍ ما مشتبه فيه، وضع اسمه في مفكرته الخاصة، وقد حاول البطل رصد ذاكرته للأحداث التي مرّت به، ولم يستطع تذكر هذا الشخص، عندما انتهى التحقيق معه، يلمح فتاة تتجه بدورها إلى مكانه الذي كان يجلس فيه ليتم استجوابها أيضا.

يدفعه فضوله لانتظارها على ناصية مقهى قريب من مبنى الشرطة، ويتم التعارف بينهما لتطلب منه أن يأويها في منزله في تلك الليلة، لاضطرارها أن تترك شقتها، وتبدأ المغامرة في تلك الليلة. تعرفه الفتاة لاحقا على مجموعة من الرجال، يطلبون منه طلبا غريبا وهو أن يتوجه إلى رجلٍ يجلس في مطعم، ويقول له أن يلحق بهم في السيارة، حيث يتم اختطافه، ويجد نفسه متورطا في قصة هذا الرجل مع الفتاة المجهولة، التي وقع في غرامها، وانسلت بدعة إلى حنايا روحه، وبخفة وغموض يشبه حياتها الفوضوية.

يقوم رجل من المحققين بالاتصال به لتحذيره من الفتاة، وإبلاغه بأنها كانت تعمل في الدعارة، وأنها تقوم باستغلاله بعد أن غادرت السجن من فترة، ولكنه يزداد تشبثا بها وإيمانا بنزاهتها الروحية الباطنية، ويقنعها بالسفر معه إلى روما للعمل هناك بدعوة من صديقه، وتبدو مقتنعة ومرتاحة للقرار، وقبل رحيلهما بأيام ينتقلان للإقامة في فندق، وتطلب منه أن ينتظرها ريثما تذهب إلى شقتها القديمة لإحضار أموالها وأغراضها، ولكنه يعلم من صاحب الفندق بأنها تعرضت لحادث مؤلم، وعثروا على بطاقة الفندق في جيب معطفها فقاموا بإبلاغه.

ينهي موديانو الرواية بتلك الجملة تعبيرا عن صدمته العميقة البالغة التأثر، بعد سماعه للخبر المروع: «خرجتُ من غير أن أفكر. في الخارج كان كل ما هنالك رقيقا، وصافيا، وهادئا، مثل سماء يناير حين تكون زرقاء». كانت المغامرة التي قام بها مع حبيبته المجهولة فائقة الخطورة، وانتهت بموتها بطريقة مريبة، وقد مزج بها الحاضر بالماضي، فهو يروي أحداثها التي وقعت في الماضي بلسان الحاضر، متسربلا بذكريات يستحضرها وهو يجول في المقهى نفسه الذي قصداه معا، ويخطو في الطريق التي سلكاها معا بحماس وانبهار.

اللغة السردية لموديانو كعادتها جاءت سلسة متمردة على القوالب الكلاسيكية المتكررة، مع محافظة تامة على المتن والمبنى للعناصر الفنية وحواشي النص، بنكهة كرنفالية غير متعددة الأصوات تنحسر في صوت البطل وحده، الذي يسرد ويحس ويشعر ويتألم، من غير التركيز على الأبطال الآخرين فيها، مع أن الرواية عادة هي فن البحث عن الإنسان، وتسليط الضوء عليه، ونحن لم نلمح من صفات تركيبة الطباع البشرية لدى سائر شخصيات القصة، إلا من خلال عينيّ البطل الراوي وحده، فكأن المعرفة عنده تسبق الخيال، وقد تجهمت المواقف في الرواية ولكنها أفردت ملامحها في حلولٍ سريعة تمخضت عنها المواقف التي عاشها مع حبيبته التي غيبها الموت الأبدي.

نلاحظ أن العاطفة تكاد تكون مغيبة في رواية «سيرك» لولا بضع نفحات يدسها الكاتب في صميم الحدث، للتعبير عن بعض الحنان الجاثم في مخيلة وقلب الإنسان.

باترك موديانو كاتبٌ امتاز بتفرده التعبيري، وتعرض للكثير من النقد في مواقع عديدة، منها ما كان يستحقها ومنها ما صارعه ولم يصرعه.

 

  • كاتبة لبنانية

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي