ألبرتو مانغويل.. الأديب الأرجنتيني الذي يلاحق الوحوش ويكشف عن الكاتب العربي الأصلي لدون كيشوت

2020-06-17

كمال الرياحي - تونس

لم يتوقف مشروع الكاتب الأرجنتيني الكندي ألبرتو مانغويل في استنطاق الكتب عند إنتاج تلك التي تمتدح القراءة وتؤرخ للمكتبات عبر مؤلفاته الشهيرة "تاريخ القراءة" و"ذاكرة القراءة" و"المكتبة في الليل" و"يوميات القراءة" وأعماله السيرية عن لويس بورخيس، بل ذهب منذ مدة متوغّلا في التفاصيل غير المرئية في تاريخ الأدب من خلال بحوث وموسوعات جديدة تستمد قيمتها من أصالتها وفرادتها ككتابه الفريد "معجم الأمكنة التخييلية" الذي وضعه عام 1980 صحبة الإيطالي جياني غوَدالوبي، إذ جمّعا فيه الأمكنة من بلدان ومدن وقرى كتبت في الروايات العالمية، سواء كانت واقعية أم تخييلية.

أما كتابه الجديد "شخصيات مذهلة في عالم الأدب" الصادر ترجمته العربية عن دار الساقي حديثا، فهو مقاربة جديدة لما يسمى "الشخصيات المفاهيمية".

شخصيات مذهلة أم متوحشة؟

اختار المترجم مالك سلمان نقل كتاب "وحوش خرافيون" (Fabulous Monsters) إلى العربية بعنوان جديد "شخصيات مذهلة من عالم الأدب"، رغم أن الترجمات الأخرى بما فيها الفرنسية حافظت على العنوان الأصلي، لأن فكرة الوحش متأصلة في مقاربة ألبيرتو مانغويل، وإن كان مفهوم الوحش يتجاوز فكرة الرعب والتخويف مع بعض الشخصيات.

في كتابه “شخصيات مذهلة في عالم الأدب” يستعرض الكاتب الأرجنتيني مانغويل قدرة الشخصيات المتخيلة على الخروج من الكتب الأدبية لترشدنا في حيواتنا

وقد اهتم الكاتب بـ37 شخصية أدبية عالمية هي: مسيو بوفاري، ذات الرداء الأحمر، دراكولا، أليس، فاوست، غيرترود، سوبرمان، دون جوان، ليليث، اليهودي التائه، الجميلة النائمة، فيبي، سينغ- تشن، جيم، الكمّير، روبنسون كروزو، كويكوغ، الطاغية بانديراس، سيدي حميد بن جلي، أيّوب/ كوازيمودو، كاسوبون، إلبليس، الهيبوغريف، الكابتن نيمو، وحش فرانكشتاين، ساندي، النبي يونس، الدونا إميليا، الونديغو، جد هايدي، إلسي الذكية، لونغ جون سيلفير، كركوز وعواظ، إميل، سندباد، ويكفيلد.

وبالتأمل في هذه الشخصيات نتفهم ما دفع بالمترجم إلى استبعاد كلمة وحوش لأن القائمة ضمت اسم نبي، وهو النبي يونس عليه السلام، وشخصيات عرفت برومانسيتها أو ببراءتها كالجميلة النائمة وأليس وذات الرداء الأحمر. كما لا نغفل عن أن وجود اليهودي التائه ضمن القائمة لم يمنع ألبرتو مانغويل المنحدر من عائلة يهودية من إطلاق كلمة وحوش على الكتاب في نسخته الأصلية، ويرجع ذلك ربما إلى تحرر مانغويل من سطوة الدين اليهودي كما يعبر عن ذلك دائما، إذ يعتبر الأدب أكبر من أن يوظف ويحاصر بانتماءات دينية، ومن هذه العقيدة جاءت مساندته الدائمة للشعب الفلسطيني ومطالبته بحل عادل، وحق الفلسطينيين في مكتبة وطنية في الأرجنتين كان نادى بهذا الحق منذ سنوات وأعاد إطلاقه من تونس منذ أشهر قليلة.

مانغويل رسام ومؤلف

كتب هذا الكتاب بشغف كبير حتى إن ألبرتو مانغويل رسم بنفسه الشخصيات التي تحدث عنها، وتبدو الرسومات بالأبيض والأسود رسومات ساذجة تقربها من المتلقي كما لو كانت لأطفال، وذلك يتناغم مع الطابع الأوتوبيوغرافي للكتاب حيث يدخل مانغويل بحثه من ذاكرته وسيرته مع القراءة، ووقع تلك الشخصيات عليه قبل أن يذهب بعيدا في التحليل الأدبي والفلسفي والنفسي لها.

وهذه خصوصية في النقد العالمي تميز بها مانغويل، يمكن أن نسميها بـ"تسريد النقد" وتحوليه إلى نص إبداعي رغم عمق الأفكار النقدية التي يقولها.

شخصيات أدبية أم شخوص من لحم ودم؟

يطرح الكتاب مسألة مهمة في تاريخ الأدب، وهي مكانة تلك الشخصيات التي قرأتها أجيال من البشر، وأثرها فيهم، وعلاقة القراء بتلك الشخصيات التخييلية.

يقول مانغويل:

"انكبت مؤسسة "الخدمات البريدية البريطانية" منذ بضع سنوات على تدقيق الرسائل المعنونة إلى السيد المحترم شرلوك هولمز، بينما كان تشارلز ديكنز يتلقّى سيلا من الرسائل الغاضبة، يلومه فيها القراء على وفاة ليتل نيل في رواية حانوت الفضول القديم. ويقول لنا علم الأحياء إننا أبناء وبنات أشباح من حبر وورق"

هكذا يرتفع مانغويل عبر عدد الشواهد المعاصرة والحديثة بالتخييل إلى مرتبة الفاعل والمؤثر في الواقع، فتغادر تلك الكائنات اللغوية عالمه الحبري لتلتحق بالكائنات الحية.

فالتخييل، حسب رأيه: آدم لغوي معجون من التراب البدائي على صورة "المؤلف" الذي ينفخ فيه الحياة. وربما لهذا السبب، على النقيض مما يبدو، غالبا ما تبدو الشخصيات التخييلية المميزة حية أكثر من أصدقائنا المخلوقين من لحم ودم.

والحق أن هذه النظرة للشخصيات الأدبية المؤثرة تنسحب أيضا على الأمكنة التي أصبح العالم يعتقد في وجودها، بل تحولت بعض الأسماء لقرى تخييلية إلى موضوع تنازع بين الناس كقرية "ماكوندو" في رواية "مئة عام من العزلة" لغابريل غارسيا ماركيز التي صار لها وجود في أكثر من دولة بأميركا اللاتينية.

يتحدث مانغويل عن تلك الشخصيات باعتبارها الثابت الوحيد في حياته القائمة على الترحال منذ كان طفلا بسبب وظيفة والده الدبلوماسي، فكان يلوذ بمكتبته وقصصه باعتبارها الملاذ والثابت في ذاكرته الذي يذكّره بنفسه كل مرة بعيدا عن حياة السفر الدائم، فـ"الوحوش الجميلة" ظلت هي الوفية الدائمة له، فكان يعيد القصص والروايات نفسها ويجدها هناك كما تركها لكنها كانت تقول له أشياء جديدة كل مرة. فالقراءة فعل متطور في الديمومة، وكل قراءة هي اكتشاف جديد بحسب مكتسبات القارئ المعرفية وأثر التجارب الشخصية التي خاضها.

الشخصية العربية الغامضة

ينفرد الكتاب بالحديث عن الشخصية المهملة في النص المؤسس للحداثة الروائية الغربية، رواية دون كيشوت للإسباني ميغيل دي ثيربانتس. تلك الشخصية العربية التي يسند إليها الراوي المخطوط وهو سيدي أحمد بن نخلي، تلك الشخصية التي لم ينصفها مترجمو رواية دون كيشوت بما فيهم مترجم كتاب ألبرتو مانغويل هذا، حيث نقلت إلى العربية "سيدي حميد بن نجلي"، وهي ترجمة خاطئة لأننا سمعنا مرات ألبرتو مانغويل ينطقها سيدي حامد بن نخلي، وقد استلهم منها الروائي التونسي المؤسس البشير خريف إحدى شخصيات رواية "برق الليل" وسماه بالاسم ذاته سيدي حامد بن نخلي.

يقول مانغويل: عندما يصل ثيربانتس إلى الفصل الثامن من هذا التاريخ المدهش لبطله، يخونه الوحي، فيوقف ثيربانتس الحكاية في منتصف إحدى المغامرات الطائشة. وبعد فشله في إكمال كتابة الرواية يجد نفسه في أحد الأيام يتسكع عبر سوق "طليطلة" فيقع على مخطوطة مهترئة باللغة العربية في أحد أكشاك بيع الكتب. فيبحث عن مترجم ويكلفه بترجمة المخطوطة العربية ليكتشف أنها تحت عنوان "تاريخ دون كيخوته" ووقعها المؤلف باسم سيدي أحمد بن نخلي.

وبهذا الفصل من الكتاب يفتح مانغويل موضوعا خطيرا متعلقا بالتأليف والتخييل والواقع، فهل نأخذ هذا الاسم العربي كشخصية متخيلة صرفة، أم أن احتمال وجودها الحقيقي ممكن خاصة أننا نتحدث عن فترة تاريخية كان فيها الوجود العربي ما زال قويا في إسبانيا من ناحية، وارتباط أحداث رواية دون كيشوت بسيرة المؤلف، حيث تروي مقاطع من حياته كتجربة اعتقاله في الجزائر من قبل القراصنة في فصل "تاريخ الأسير" من ناحية أخرى؟

وإذا كانت شخصية بن نخلي حقيقية فهذا يطرح مسألة مهمة في تاريخ الأدب، وهي المساهمة العربية في نشأة أعظم رواية في التاريخ: دون كيشوت، خاصة أن ثيربانتس لم يُعرف بأعمال أخرى مهمة ولم ترتق قصصه ومسرحياته إلى مستوى دون كيشوت. فهل يكون العرب من كتبوا دون كيشوت؟ أم هو محض تأثر من ثيربانتس بالثقافة العربية الإسلامية؟ خاصة أن أسلوب كتابة الرواية يتقاطع أيضا مع السرود الشرقية كألف ليلة وليلة مثلا.

 

                    سيدي حامد بن نخلي

"يخبرنا ثيربانتس بوضوح لا لبس فيه أنه ليس أب الكتاب وإنما أباه بالتبنّي، إنه متلقي القصة وليس مخترعها. لكن القرّاء أبوا أن يصدّقوه على مدى قرون. إذ تبدو فكرة تأليف ثيربانتس كتابه في السجن أكثر صدقا لنا من وقوعه على مخطوطة كتبها شخص باسم سيدي حميد بن جلّي. مع ذلك، كلتا المقولتين ضرب من التخييل، كما أن كلتيهما صحيحة. فعالم ثيربانتس كعالمنا اليوم عالم تُلعب فيه الأدوار وتُرتدى الأقنعة"

والمتتبع لتلميحات مانغويل الذكية، ورغم وضعه لإمكانية أن يكون بن نخلي وقصة المخطوطة مجرد لعب فني، يلاحظ ميلا واضحا نحو ترجيح فرضية أن يكون نص دون كيشوت فعلا عربي الأصل، إذ يعتبر في غضون الكتاب أن أخلاق دون كيشوت قد لا تتماثل مع قوانين الفروسية المعروفة في العالم المسيحي، ويستشهد مانغويل بآيات قرآنية من سورة الإنسان، رابطا ذلك بقناعة وإيمان دون كيشوت بالعدالة على الطريقة الإسلامية، وهو ما يعد غمزا لثربانتيس وتشكيكا في كونه الكاتب الأصلي للرواية.

ليبقى في النهاية مؤلف دون كيشوت تتنازعه شخصية سيدي حامد بن نخلي المجهول والملاحق والكاتب ثيربانتس المحرّر من القراصنة من ناحية، وحضارتان إحداهما منهزمة هي الأندلس والأخرى إسبانية مسيحية منتصرة ومحاكم التفتيش من ناحية أخرى. ليظل السؤال مطروحا: هل كف الأدب في العالم عن إنتاج هذه "الشخصيات المفاهيمية" الخالدة (المصطلح للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز)، التي تحوّلت إلى عنصر من العناصر المشكّلة لذاكرتنا ومقوم حي من مقومات فهمنا للواقع وتعاملنا اليومي معه؟ وإذا كنا لسنا سوى "أبناء وبنات أشباح من حبر وورق"، فهل سنبقى نتشكّل عبر هذه الشخصيات القديمة أم تحوّلنا في تشكّلنا من الشخصيات التخييلية الأدبية إلى شخصيّات تطل علينا من عوالم أخرى كالسينما وألعاب الفيديو وغيرها من إنتاجات ما بعد الحداثة؟

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي