من قتل رولان بارت؟

2020-04-11

لوران بيني

ترجمة: محمود عبد الغني

من قتل رولان بارت" للروائي الفرنسي لوران بيني، وهو روائي وأستاذ جامعي فرنسي بجامعة باريس. وُلد سنة 1972 بباريس. تحكي روايته عن النقاش الذي دار في فرنسا وقت وبعد موت رولان بارت في حادثة سير.

وقد امتدّ سرد الرواية وتفكيرها إلى أبعد من ذلك، حيث ناقشت قضايا عديدة تهمّ اللغة ووظائفها، وخلق السيميولوجيا وما تفرّع عنها.

-1-

باريس

الحياة ليست رواية. على الأقل هذا ما تريدون تصديقه. صعد رولان بارت شارع "بييفر". لأكبر ناقد أدبي في القرن العشرين جميع الأسباب ليكون خائفاً إلى أكبر درجة. توفيت والدته، التي كانت تربطه بها علاقات بروستية جدّاً. والدرس الذي ألقاه في الكوليج دي فرانس تحت عنوان "تهيئة الرواية"، تمّ تعويضه عنه بشيك لا يمكن التكتّم عنه إلا بصعوبة: لسنة كاملة، كان عليه أن يحدّث طلبته عن الهايكو الياباني، عن التصوير، عن الدوال والمدلولات، عن الترفيه كما يراه باسكال، عن شباب المقاهي، عن لباس النوم أو عن المقاعد في المدرّج.. عن كل شيء إلا الرواية.

وذلك سيستمرّ طيلة ثلاث سنوات. وهو يعرف بالقوة أن الدّرس في حدّ ذاته ليس سوى مناورة لربح الوقت تهدف إلى تأجيل لحظة البدء في عمل أدبي حقّاً، بمعنى إنصاف الكاتب الشديد الحساسية الذي ينام داخله والذي، وهذا رأي الجميع، شرع في التكّون مع "شذرات من خطاب عاشق"، الذي كان هو إنجيله منذ بلوغه سنّ الخامسة والعشرين. من سانت- بوف إلى بروست، كان الوقت قد حان للتحوّل وأخذ المكان الذي يستحقّه داخل معبد الكُتّاب. توفيّت والدتي: منذ "الدرجة الصفر للكتابة" اكتملت الدائرة. جاءت الساعة.

السياسة، نعم، نعم، سنرى ذلك. لا يمكن أن نقول إنه أصبح ماويّاً منذ سفره إلى الصين. وفي نفس الآن، ليس هذا ما ننتظره منه.

شاتوبريان، لاروشفوكو، بريخت، راسين، روب- غرييه، ميشليه، ماما. حبّ طفل.

أنا أتساءل حول ما إذا كانت هناك "مخيمات قديمة" في كل مكان من الحيّ.

بعد ربع ساعة، سيموت.

أنا متأكّد أن الطعام كان لذيذاً، شارع "بلون- مونطو". أتصوّر أننا نأكل جيّداً عند هؤلاء الناس. في "ميثولوجيات"، فكّ رولان بارت الأساطير المعاصرة التي أسّستها البورجوازية في ارتباط مع نصرها الخاص، ومع هذا الكتاب أصبح شهيراً بالفعل؛ وفي المجمل، وبطريقة معيّنة، البورجوازية هي من صنعت ثروته. لكنها كانت البورجوازية الصغيرة. البورجوازي الكبير الذي يضع نفسه في خدمة الشعب هو حالة فريدة جدّاً تستحقّ التحليل؛ يجب كتابة مقالة في الموضوع. هذا المساء؟ ولمَ ليس الآن؟ لكن لا، يجب عليه فرز الأفلام.

أسرع رولان بارت الخُطى دون أن يشعر بشيء في محيطه الخارجي، رغم أنه ازداد بحسّ المراقبة، هو الذي تتطلّب مهنته المراقبة والتحليل، هو الذي قضى حياته بكاملها في مطاردة العلامات. حقيقة لم يرَ الأشجار ولا الأرصفة ولا الواجهات والسيارات في سارع سان جيرمان الذي يعرفه عن ظهر قلب. هو ليس الآن في اليابان. لا يشعر بلسعات البرد. بصعوبة يسمع ضجيج الشارع. ذلك يشبه إلى حدّ ما أليغوريا الكهف المقلوبة: عالم الأفكار الذي سجن نفسه داخله أظلم استقباله للعالم المحسوس. لا يرى حوله سوى الظلال.

 

"فكّ رولان بارت الأساطير المعاصرة التي أسّستها البورجوازية في ارتباط مع نصرها الخاص، ومع هذا الكتاب أصبح شهيراً بالفعل"

الأسباب التي تطرقتُ إليها قبل قليل كي أشرح الطّبع المتشكّك لرولان يثبتها التاريخ، لكنني أرغب في أن أقصّ عليكم ما حدث فعلا. في ذلك اليوم، إذا كان شارداً، فليس فقط بسبب والدته المتوفاة، ولا لفقدانه الطاقة لكتابة رواية، ولا حتى لزوال الحب المتنامي الذي لا شفاء منه للذّكور، كما يحكم هو بنفسه. لا أقول إنه لا يفكر في ذلك، فأنا لا أشكُّ في نوع العُصاب الدائم. لكن اليوم، هناك شيء آخر. بنظرة غائبة لرجل مستغرق دوماً في أفكاره، والعابر اليقظ سيعرف هذه الحالة التي يعتقد رولان بارت أنه لن يستطيع أبداً تبريرها: الإثارة. ليس هناك سوى والدته، وليس الذكور أو روايته الشّبح.

هناك أيضاً الرغبة في المعرفة، ومعها تمّ إحياء الأمل العظيم في تثوير المعرفة الإنسانية، وربّما، تغيير العالم. هل شعر بارت بما شعر به أينشتاين وهو يفكّر في نظريته حين كان يعبر شارع المدارس؟ ما هو مؤكّد أنه لم يكن متيّقظاً. بقي له بضعة عشرات الأمتار للوصول إلى مكتبه حين صدمته شاحنة صغيرة. سال من جسده صوت كتوم، مميّز، مخيف، اللحم اصطدم بالصفيح، وتدحرج على قارعة الطريق مثل دمية من الإسفنج. المارّة قفزوا. في ظهيرة 25 فبراير/شباط 1980، لا يستطيعون تصوّر ما حدث أمام أعينهم، وذلك سبب وجيه ليتجاهله العالم، وإلى اليوم.

-2-

السيميولوجيا أمرٌ في غاية الغرابة. إن فرديناند دي سوسير، مؤسّس اللسانيات، كان أول من تنبّأ به. في كتابه "محاضرات في اللسانيات العامة" اقترح "وضع تصوّر لعلم يدرس حياة العلامات في قلب الحياة الاجتماعية".

لا شيء غير ذلك. وأضاف، على سبيل تنوير الطريق لمن يريدون الارتباط بهذه المهمّة: "ستشكّل “signe”,sémion جزءاً من علم النفس العام؛ سنسميها "سيميولوجيا" (من اليونانية). ستعلمنا الدور الذي ستلعبه العلامات، وما هي القوانين التي ستتحكّم فيها. وما دامت هي غير موجودة بعد، لا نستطيع أن نقول كيف ستكون؛ لكن لها الحق في الوجود، لكن مكانها محدّد قبلاً. اللسانيات ليست سوى جزء من هذا العلم العامّ، والقوانين التي ستكتشفها السيميولوجيا ستكون قابلة للتطبيق على اللسانيات، وهكذا ستجد هذه الأخيرة نفسها مرتبطة بحقل محدّد بطريقة جيّدة داخل مجموع الأفعال الإنسانية".

أحبّ أن يقرأ علينا فابريس لوشيني (ممثل فرنسي) هذا المقطع، ويركّز على الكلمات وهذا أمر يجيد فعله جيّداً، حتى يعيها العالم أجمع، وإذا لم يكن على مستوى المعنى، فعلى الأقل على مستوى الجمالية بشكل عام. هذا الحدس العظيم، الذي يكاد يكون غير مفهوم عند معاصريه (المحاضرات صدرت سنة 1906)، لم يفقد شيئاً، بعد قرن كامل، من قوته ولا من التباسه.

منذ ذاك حاول العديد من السيميائيين وضع تعريف في نفس الآن واضح ومفصّل، لكن واحدهم ناقض الآخر (أحياناً دون انتباه من طرفهم)، وشوّشوا كل شيء ولم ينجحوا في النهاية سوى تمديد (مرة أخرى، وبصعوبة) قائمة أنظمة العلامات الهاربة من اللغة: قانون السير، قانون البحار العالمي، أرقام الحافلات، أرقام غرف الفنادق، كما قاموا بتتمّة الرتب العسكرية، وأبجدية الصُمّ- البُكم...هذا كلّ شيء تقريباً.

نحيف قليلاً بنظرة فيها طموح أصلي.

هكذا نُظر إليها، السيميولوجيا، بعيداً عن كونها تمديداً لحقل اللسانيات، التي قلّصت نفسها إلى دراسة اللغات البدائية الكبرى، الأقل تعقيداً وإذاً المحدودة أكثر من أيّ لغة أخرى.

وليس صدفة إذا كان أمبرتو إيكو، حكيم بولونيا، أحد السيميولوجيين الأخيرين، يرجع كثيراً في الغالب إلى الاختراعات الحاسمة الكبرى في تاريخ البشرية: العجلة، الملعقة، الكتاب...التي هي أدوات عظيمة، في نظره، ذات فعالية لا يمكن الاستغناء عنها. كل شيء يدعو إلى افتراض، في النهاية، أن السيميولوجيا في الحقيقة هي أحد الاختراعات الرئيسية في تاريخ الإنسانية وإحدى أقوى الأدوات التي لم يصنع مثلها الإنسان، لكنها تشبه النار والذرة: لم نعرف دوماً في البداية في ماذا نستعملها، ولا كيف نستعملها.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي