عارضوه في البداية لكن إصراره أنقذ البشرية.. تعرّف على الطبيب الذي اكتشف لقاح الجدري

2020-04-03

أسماء رمضان

في لحظاتٍ نادرة من التاريخ قد يحدد شخص واحد مصير البشرية بأكملها في مواجهةٍ مرضٍ ما. وهذا ما حدث حين اكتشف الطبيب البريطاني إدوارد جينر أول لقاح لمرض الجدري، أحد أشد الأمراض فتكاً في تاريخ الإنسانية، والذي قضى في القرن العشرين فقط على حياة أكثر من 500 مليون إنسان، وأصاب أكثر من ثُلث المرضى بالعمى.

بفضل لقاح الجدري الذي اكتشفه إدوارد جينر، أعلنت منظمة الصحة العالمية بعد قرنين من اكتشافه، في عام 1980، القضاء نهائياً واستئصال مرض الجدري. وهو المرض الوحيد في التاريخ الذي استُئصل تماماً، أي أنّه المرض الوحيد الذي تم محاربته في جميع بلدان العالم.

في هذا التقرير نحكي لكم قصة واحدٍ من أعظم الأطباء في تاريخ الإنسانية: إدوارد جينر.

الجدري: الطاعون الأحمر الذي فتك بالبشرية

الجدري مرض فيروسي شديد الخطورة، يسببه فيروس “فاريولا” (Variola)، وهو فيروس كبير نسبياً كان يعد ويؤدي إلى ظهور بقع تتطوّر لاحقاً إلى بثور صغيرة، ثم تتحول تلك البثور إلى ندوبٍ عميقة، ويصاحبه ارتفاع حاد في درجة حرارة الجسم، ثمّ يظهر بعدها طفح شديد على الجلد.

وقد تسبب الجدري في وفاة نحو 30% ممّن أصيبوا به عبر التاريخ، أما بالنسبة للناجين فقد رافقتهم التشوهات والندوب العميقة، ورافق بعضهم العمى.

الجدري

ظهر مرض الجدري منذ آلاف السنين، ويُعتقد أنّه نشأ في مصر القديمة أو الهند، حيث عُثر على مومياء مصرية مصابة بالجدري، وهي مومياء الفرعون المصري رمسيس الخامس، والذي توفي عام 1145 قبل الميلاد، إذ أظهرت بقاياه المحنطة بعض البثور على وجهه.

تفشَّى المرض بعد ذلك بسبب طرق التجارة في أوروبا وآسيا وإفريقيا؛ إذ وُثقت حالات للمرض في الصين خلال القرن الرابع الميلادي، وفي الهند خلال القرن السابع، وفي آسيا الوسطى في القرن العاشر.

قضى الجدري على حياة الكثير من الشخصيات السياسية المعروفة؛ ففي عام 1724م توفي لويس الثاني ملك إسبانيا بهذا المرض، تلاه بيتر الثاني قيصر روسيا عام 1730م، ولويز هيبوليت أميرة موناكو، وماري الثانية ملكة إنجلترا، ثم لويس الخامس عشر ملك فرنسا، الذي فارق الحياة عام 1774.

وخلال القرن الثامن عشر فقط فتك الجدري بحياة 60 مليون شخص، ولم يتوقّف الوباء، بل ازداد وحشيةً وضراوة؛ إذ أودى في القرن العشرين بحياة 300 مليون شخص حول العالم، وفي أحيان كثيرة أسهم الجدري في محو إمبراطورياتٍ من الوجود، مثل إمبراطورية الأزتك (المكسيك حالياً).

بعد أن وصل المرض مع الغزاة الإسبان عام 1519، قتل حوالي 3 ملايين شخص من السكان الأصليين، وبالتالي أصبحت فريسة سهلة في يد العدو، وبنفس سيناريو إمبراطورية الأزتك انهارت بعد ذلك حضارة الإنكا في غرب أمريكا الجنوبية.

إدوارد جينر ينقذ البشرية

ولد إدوارد جينر في 17 مايو/أيار عام 1749، في مدينة بيركلي بمقاطعة جلوسترشاير البريطانية، وكان الابن الثامن من بين تسعة أبناء، وقد تلقى جينر تعليماً أساسياً قوياً لأن والده القس ستيفين جينر كان يشغل منصب رئيس كنيسة بيركلي.

أصبح جينر يتيماً في سنٍّ مبكرة للغاية، إذ توفِّي والده وهو في الخامسة من عمره ليعيش بعد ذلك في كنف أخيه الأكبر الذي كان رجل دين مثل والده.

منذ صغره كان جينر شغوفاً بالعلم والاستكشاف والموسيقى والشعر، إذ ساعده حب الطبيعة الذي رافقه طوال حياته على تطوير نفسه ومهاراته العلمية من خلال الملاحظة.

إدوارد جينر مكتشف لقاح الجدري

وفي سن الرابعة عشرة تتلمذ جينر لمدة سبع سنوات على يد الطبيب دانييل لودلو، وهو جرّاح كبير جنوب جلوسترشاير، فهناك اكتسب جينر كل الخبرة اللازمة التي تؤهله ليصبح جراحاً كبيراً.

تدرّب جينر في مستشفى سان جورج على يد الجراح جون هانتر، أحد أبرز الجراحين في لندن، والأهم من ذلك أنه كان أيضاً عالم تشريح وبيولوجياً من الدرجة الأولى، وهناك نصح هانتر، جينر النصيحة الأغلى: “لا تفكِّر، ولكن جرِّب”.

استمرت الصداقة الراسخة التي نمت بين الطبيبين جينر وهانتر وظلّا على تواصل، إذ رشح هانتر، جينر للالتحاق بالجمعية الملكية، وخلال عام 1773 عاد جينر إلى مسقط رأسه الريفي، وهناك عمل طبيباً عائلياً وجراحاً ناجحاً في بيركلي.

إحدى حالبات الأبقار.. الصدفة التي أوحت لجينر باللقاح

في أحد الأيام كان جينر يتمشّى في مزرعة للأبقار، وهناك أخبرته سارة نيلمز، إحدى حالبات الأبقار، أنها أصيبت بمرض “جدري البقر”، وأنها لا يمكن أن تُصاب بالجدري الذي يصيب البشر بسبب هذا الأمر.

أخذ جينر كلام سارة على محمل الجد، وبدأ يُجري أبحاثه المطوّلة حول العلاقة بين الإصابة السابقة بجدري البقر والمناعة ضد الجدري الذي يصيب البشر.

سافر جينر إلى المدن المجاورة بحثاً عن ريفيّات أُصبن بجدري البقر، وسألهن عما إذا كنَّ أُصبن بعد ذلك بالجدري، فجاءت إجابتهنّ بالنفي.

لاحظ جينر أن الفتيات اللاتي يُصَبنَ بمرض جدري البقر تظهر على أيديهن بثور، واستنتج جينر أنّ الصديد الموجود داخل تلك البثور هو الذي كان يحمي الفتيات بطريقة ما من الإصابة بالجدري!

قرر جينر تجربة نظريته على أرض الواقع في 15 مايو/أيار عام 1796، وبالفعل أخذ بعضاً من الصديد المستخرج من يد سارة، وحقن البثور في يد الطفل “جيمس فيليبس”، ابن خادمه، وأعاد هذه العملية على مدار بضعة أيام، وفي كل يوم كان يُكثِر من كمية الصديد المحقونة في جسد الفتى تدريجياً.

بعد ذلك حقن جسم الطفل بالجدري في خطوةٍ شديدة الخطورة، إذ كان من الممكن أن تفشل التجربة ويُصاب الطفل الصغير بالبثور، ثم بالعمى، كمضاعفاتٍ لمرض الجدري.

لكنّ ذلك لم يحدث، ففي البداية أصيب جسد فيليبس بالإعياء الشديد لبضعة أيام، إذ ارتفعت درجة حرارته، وظهرت بقع حمراء مكان التطعيم، ولكنها اختفت، ثم شُفي الطفل تماماً بعد ستة أسابيع من دون أية أعراض جانبية، ومن هنا ثبت نجاح تجربة جينر المذهلة، وبدأت رحلة اللقاح الذي غير تاريخ العالم.

لقاح الجدري.. المعارضة الشديدة وبداية الرحلة

لم يستطع المجتمع الطبي البريطاني تقبُّل حقيقة أن طبيباً ريفياً من بريكلي توصّل لهذا الاكتشاف الهام، إذ أُهين جينر علناً حين أحضر لقاحه إلى لندن.

لم تقتصر معارضة اكتشاف جينر على الأطباء، إذ انضم لهم أيضاً رجال الدين والفلاسفة بمن فيهم الفيلسوف الشهير إيمانويل كانت.

إدوارد جينر يجرب لقاح الجدري

عارض كانط التطعيم بشدّة، لأنه كان يرى مخاطرة كبيرة في تجربة اللقاح، فحتى لو كانت تجربته نجحت في بعض الحالات فما الذي يضمن عدم فشلها؟ في النهاية يحتاج الأمر إلى دقة بالغة لكي ينجح، فعلى سبيل المثال يجب أخذ العينات من صديد بثور جدري البقر خلال سبعة أيام فقط من الإصابة به، وإلا لن تنجح التجربة.

لكنّ اكتشاف جينر كان أكبر من أن يتم تجاهله، ففي النهاية اعترف الجميع بأهمية لقاح الجدري الذي سيغير العالم، وذلك بعد أن جُرِّب على أكثر من 22 حالة تحسّنت جميعها دون أية أعراض جانبية، وخلال عام 1840 حظرت الحكومة البريطانية أي علاج ضد الجدري إلا لقاح جينر.

بعد ذلك بدأت مرحلة الأبحاث المستمرة على اللقاح، والتي حالت دون ممارسة جينر لمهنة الطب لانشغاله بالأبحاث. لكنه في ذلك الوقت كان قد حصل على تشجيع ودعم الكثير من أصدقائه، كما حصل أيضاً على دعم مالي من الملك.

أُعطي إدوارد جينر منحة قدرها 10 آلاف جنيه عام 1802 نظير أبحاثه على اللقاح، وفي العام نفسه انتخب عضواً شرفياً كأجنبي في الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون، وأيضاً في الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم عام 1806، وخلال عام 1807 مُنح 20 ألف جنيه أخرى، وذلك بعد أن أعلنت كلية الجراحين الملكية عن مدى فاعلية اللقاح.

أصبح إدوارد جينر لاحقاً رئيساً لجمعيته المسؤولة عن تطوير اللقاح ضد مرض الجدري عام 1803، ولكن الجمعية أغلقت أبوابها عام 1809، وفي عام 1808 أسست الحكومة البريطانية المؤسسة الوطنية للقاح، وكان جينر عضواً بها أيضاً.

وخلال عام 1821 عُين جينر طبيباً استثنائياً للملك جورج الرابع، وهو الأمر الذي يعد شرفاً قومياً رفيعاً، كما عُين أيضاً عمدة لمدينة بيركلي، واستمر في أبحاثه في مجال التاريخ الطبيعي، وخلال عام 1823 قدم للجمعية الملكية كتابه عن “ملاحظات في هجرة الطيور”.

إدوارد جينر ونابليون بونابرت

أحدث لقاح الجدري الذي اكتشفه جينر صدىً واسعاً في القارة الأوروبية بأكملها، حتى وصل للإمبراطورية الفرنسية؛ ففي أكتوبر/تشرين الأول من عام  1803 التقى الطبيب والسياسي جوزيف إغناس غيوتين مع القنصل الأول للبلاد نابليون بونابرت، وتحدث معه عن ضرورة اعتماد تطعيم الجدري في فرنسا.

وبالفعل بدأت حملات التطعيم في فرنسا خلال عام 1805 بمساعدة الصيدلي الفرنسي الشهير أنطوان برمانتيه، كما طُعِّم الجيش الفرنسي بالكامل، وفي مايو/أيّار عام 1811، طعَّم بونابرت ابنه ضد الجدري.

برغم العداوة والحروب المتأصلة بين فرنسا وإنجلترا في تلك الفترة، فإن ذلك لم يمنع بونابرت من إرسال ميدالية شكر للطبيب الإنجليزي إدوارد جينر، نظير مجهوده الكبير في شفاء الملايين من الفرنسيين من مرض الجدري.

وفي عام 1805 راسل جينر نابليون بونابرت، وطلب منه إخلاء سبيل أسيرين إنجليزيين، وقد حقق نابليون طلبه وأطلق سراح الأسيرين على الفور تكريماً له.

لقاح الجدري.. هدية إدوارد جينر للعالم أجمع

لم يسجل جينر براءة اختراع لاكتشافه حتى لا يرفع سعر اللقاح، فكان لقاحه بمثابة هدية إلى العالم أجمع، وقد حوِّل منزله الذي طَعّم فيه الطفل إلى متحف صغير اعترافاً بفضل الطبيب الذي أنقذ الملايين، والذي أطلق عليه العالم لقب “أبو المناعة”، ووضعته BBC ضمن قائمة أعظم 100 بريطاني على مدار العصور.

وبداخل المتحف الصغير في مسقط رأس جينر توجد قرون البقرة بولسوم؛ بقرة سارة التي أصابتها بجدري البقر؛ وذلك تخليداً لذكرى سارة وبقرتها بولسوم، ودورهما الكبير في تطوير لقاح الجدري.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي