في كتاب "في الجماليات" لإدغار موران: سلك الأدب طرقا متعددة للتعبير عن الخيال والواقع

2020-03-24

 رشيد سكري*

سلك الأدب طرقا متعددة للتعبير عن الخيال والواقع، بما هما ركيزتان للتفاعل، الذي يحصل عليه المتلقي مع الخطاب الأدبي. فالإشارة والرمز والإيحاء تستعيد من خلالهما اللغة بناءها، بل تتشكل الدلالة في الانزياحات، التي تحمّل المفردة ما لا تستطيع، علاوة على أنها ـ أي الانزياحات ـ تدفع بها نحو تخوم التأويل ؛ للقبض على الدلالة والمعاني. فالخيال والواقع ينسج بينهما المفكر الفرنسي أدغار موران علاقة جمالية، تتعدى المألوف والاعتيادي.

للخيال سيولة منقطعة النظير، حسب موران، عندما يتم الربط بين أجزاء وأطراف الصورة الأدبية، فمهما حاولنا أن نذعن للشروط الموضوعية، التي يفرضها الواقع، ويصر على الرضوخ لوصاياه، فإننا نفهمه فهما جليا بواسطة البحث عن الروابط والتوليفات ذات المنحى التفسيري والتأويلي. فكلما ابتعدنا عن الوصف الظاهراتي للقضايا، التي يثيرها النص الأدبي، واتجهنا صوب اليومي، وما نصادفه من صور بلاغية مثيرة، فإن الجمال يتمأسس وتصبح له دلالة موضوعية، من خلال احتكاكنا الدائم بصور، قد تبدو مألوفة وطبيعية في أذهاننا.

يبدو جمال الصورة الأدبية، حسب موران، في الإسقاط الذي يشد الانتباه إلى لحظات عابرة في الذاكرة، أو في اللاشعور المرئي. فصورة «قط يتمدد، ويمد قوائمه إلى الأمام» لا يدرك جمالها الحقيقي إلا في ظل ذاك الإحساس الذي تحس به، وأنت تتمدد مثل القط فوق السرير أو عند الوقوف. إن علاقة الصورة وما تحدثه في الذهن ظلت ملتبسة، نظرا لاشتغال اللاشعور بصفة دائمة وغير متقطعة. فالجمال، حسب موران، مركب من واقع ومن خيال، بما هما جوهرا الخطاب الأدبي.

فالإحساس بالجمال مرتبط ارتباطا عضويا بالواقع، ومنه نستحضر البلاغة العربية عندما نريد أن نميز بين الخبر والإنشاء. فهذا الأخير لا يمكن عرضه على الواقع، بينما الخبر نقتفي أثره بالدلالات والمعاني، انطلاقا من الرجوع إلى مصدر المعرفة، إلا أن في الإنشاء بذرة من الخبر، يتحول بموجبها إلى معان وسياقات تولد الخطاب، بالرجوع إلى مغزى جمالية الخطاب الأدبي، بين الواقع والخيال تتولد، حسب أدغار موران، المعرفة الفنية، ومدى وسعها في إحاطة الفكر الإنساني. فحضور الفن في بعده الجمالي ينتقل مباشرة إلى تقديس القديم عبر إبداع الأعمال والأشكال والألوان والأصوات، بهدف خلق التواصل الحقيقي. إن تقديس، هذا القديم، هو الذي يدفعنا إلى اتخاذ مواقف تستجيب لطموحات كانت مؤجلة، علاوة على ابتكار أساليب تبرز الجوانب المشرقة ذات البعد الجمالي الصرف.

وفي المستوى ذاته، نلاحظ التفاعل اللامشروط مع مأساة احتراق كاتدرائية نوتردام دو باري. هذا الارتباط، بالماضي الممزوج بالإعجاب، ينظر إليه موران مصدرا غنيا من مصادر الجمال، الذي نحس به أو نتفاعل معه. غير أن سحر الفن له منطق خاص به، فالإعجاب بالشيء يفك شيفرات ذهنية، يتم تحيينها عن طريق الإسقاطات المعرفية والدلالية. فلوحة الجيوكاندا أو الموناليزا للرسام الإيطالي ليوناردو دافينشي، التي غزت المعارض العالمية، تسكب ألحانا ونغما، وتبدع شعرا في وجه كل من وقف يتأمل جمالها الآسر، بتاريخها العريق في الثقافة الإنسانية. إن عصر النهضة الأوروبية، في القرن السادس عشر، هو عصر النحت والرسم والتشكيل والعمارة، فهل يمكن أن نقول إن جمال الموناليزا نابع من الإسقاطات الذاتية على اللوحة؟ أم هناك سر غير مكشوف يترك لما سيأتي من الزمن.

 

كان الجمالُ، الذي تتمتع به الموناليزا، قد أشـَّر للهيمنة التي دشـَّنها الفكر النهضوي في أوروبا وخارجها، من هنا تساءل أدغار موران، هل فعلا أسر سحر الموناليزا اليابانيين في معارض طوكيو؟

يقول عنها عبد الغفار مكاوي في كتابه « قصيدة وصورة: «هي أشهر وجه إنساني في تاريخ فن الرسم». كما أن الشاعر إدوارد دودن اكتشف جمالها في قصيدته الشهيرة، التي عنونها بـ»موناليزا»:

أيتها العرافة، عرفيني بنفسك

حتى لا أيأس من معرفتك كل اليأس

وأظل أنتظر الساعات، وأبدد روحي

ابتسامة مفعمة بسحر السر

فيها الحنان والجمال

أتراها تغوي ضحيتها

أم تهلل لانتصارها؟

كان الجمالُ، الذي تتمتع به الموناليزا، قد أشـَّر للهيمنة التي دشـَّنها الفكر النهضوي في أوروبا وخارجها، من هنا تساءل أدغار موران، هل فعلا أسر سحر الموناليزا اليابانيين في معارض طوكيو؟ وبالتالي ألغى كل أنواع الجمال الياباني. فبقدر ما نتجه نحو الإمساك بمفعول الجمال في النظرية والتطبيق، بقدر ما يعقد موران شبكة من العلاقات، التي من خلالها تتوضح معالم الفن الجمالي. فإدراك الجمال الحقيقي لا يتم إلا في ظل عقد مقارنة بين الجميل والقبيح، بالموازاة مع ذلك، فهل يمكننا الحديث عن جمالية القبح؟

اشتهر الفيلسوف الألماني فريدريش شليكل بنظرية القبح في الجمال، لينتقل بعد ذلك إلى الأدب، يقول: «القبيح هو الهيمنة المطلقة للتميز والفردي والمثير للاهتمام وللبحث الذي لا يشبع وغير كاف دائما عن الجديد والشائك واللافت للنظر». إن الجمال في الأدب عند أدغار موران غير مرتبط بالشكل، وإنما يبرز، انطلاقا من المعنى والدلالة والتجسيد أيضا، خصوصية الجنس الأدبي. وبذلك استشهد موران بمنثور أغتير ريمبو، حيث يقول في هذا الصدد: «ذات مساء، أجلست الجمال على ركبتي ـ فوجدته مرا ـ ثم شتمته». يكشف، هذا التجسيد الفعلي للجمال، في أعمال العديد من الشعراء والأدباء، عن ثورة حقيقية تزعمتها رومانسية عصر النهضة في الثقافة الأوروبية.

غير أن ارتباط مفهوم الجمال بالرومانسيين ظل إلى حد ما ملتبسا، وغير قابل للتصنيف الأكاديمي، وذلك راجع إلى الصراع التاريخي المرير بين أنصار الكلاسيكية، وأتباع الرومانسيين الجدد في أوروبا. ففي عبارة الشاعر الفرنسي المعروف أبولينير، صاحب ديوان «الخمر»، الذي من خلاله يشرعن للقبح الوجودَ، إذ يقول: «يا إلهي ما أجمل الحرب». إن لتمرير مثل هذه الأيديولوجيات وقعا كبيرا على المعرفة والفكر، فإلى أي حد استطاع الشاعر أبولينير أن يمهد للتيار السيريالي في أوروبا؟

فالخراب والدمار، اللذان خلفتهما الحرب العالمية الثانية، كانا كافيين كي يصبح للامعنى معنى في الوجود. فضلا عن تجديد آليات التواصل، وخروجها عن المألوف والطبيعي، حيث تم تدمير البناء والنسق اللغوي مادام للخراب والدمار معنى. فإدغار موران يبحث عن الصلة الوطيدة، التي تربط بين القبح والجمال من خلال أعمال السيرياليين، وعلى رأسهم مؤسسها الفيلسوف تريستن تازار، ومن ثم انتقل إلى انعكاسية هذه العلاقة في الأدب وبالخصوص جنس الرواية، إلا أن الامتداد المعرفي والقضايا، التي تثيرها الأجناس الأدبية التعبيرية تحيط بمختلف الوسائط والتيارات، وبذلك كانت الواقعية المشتل الأساسي لموران كي يؤسس لعلاقته الجديدة، التي تؤلف بين الروائي والرواية، على أساس جمالي، بخلاف مشروع السيرياليين، الذين حطموا ودمروا البناء والنسق المعرفي للأجناس الأدبية. فأيّا كانت الصلة التي يبغي موران أن يكشف عنها في علاقة الرواية بصاحبها، فإنه يرى أن القوة الإبداعية الذاتية تتغذى بشكل طبيعي وأساسي من الكاتب نفسه؛ لأن هذا الأخير يعكس بشكل آلي وطبيعي المعرفة الأنثروبولوجية والاجتماعية، التي يعيشها باستمرار. وفي هذا المقام استدل أدغار موران برواد الواقعية في الأدب الغربي، الذين أحدثوا ثورة عميقة في النسيج الضام لجنس الرواية الأوروبية.

وفي مقدمتهم نجد: أونوغ دوبلزاك وفيكتور هوغو وسيلين وبروست في زمنه الضائع وغيرهم كثير. إلا أن المفارقة العظيمة، التي أشار إليها موران هي أن هؤلاء الرواد لا يدركون المغزى العميق، الذي تشير إليه أعمالهم الروائية. وإن كان ذلك من أساسيات عمل النقاد، إلا أن هذا الأخير يظل عاجزا عن فك كل شيفرات العمل الإبداعي، حيث نجده ـ أي العمل الإبداعي ـ يخاطب حقبا ماضوية وأخرى مستقبليه، مازال الزمن مفتقدا فيها.

إن فهم العمل الأدبي ليس متعلقا بالمؤلف وحسب، وإنما في اتساع رقعة تلقي النص الإبداعي، ومدى مجابهته لمختلف الانتماءات الأيديولوجية عبر العالم. فموران يحدد بلزاك من خلال ملهاته الإنسانية، حيث يصور المعاناة التي يعانيها البطل الأسطوري، في حين يراها ماركس نقدا جذريا للمجتمع البورجوازي الحقير. فمهما تناولنا العمل الأدبي بشيء من العقلانية والتبصر، إلا أن الشيء الخطير هو أنه يعكس الذاتية شئنا أم أبينا، وهذه إشكالية تنضاف إلى باقي الإشكاليات الأخرى، التي يعج بها نقد الأدب.

وفي السياق نفسه فرواية «الجريمة والعقاب» لفيودور دوستويفسكي كشفت عن الاختلال المجتمعي، الذي تعيشه بطرسبورغ، والصراع الأيديولوجي بين الطبقة البورجوازية والفقيرة. الشيء الذي دفع بالبطل إلى ارتكاب جريمته في حق العجوزين؛ لأنه بحاجة ماسة إلى المال ليتمم مشروعه الدراسي. بينما الوجه الآخر، الذي ترفع عنه رواية «الجريمة والعقاب» الدثار هو عالم الصراعات النفسية والخلل العصابي، الذي يجيء مع تطور المجتمع وانحسار أفقه المعرفي والإبداعي، وتعقد مسالك الحياة فيه، حيث كان الاعتراف بالجريمة من طرف راسكولنيكوف عبارة عن خلل عصابي أصاب البطل؛ في حين يكون عاجزا عن ذلك أمام الشرطة.

فالجمال، إذن عند أدغار موران لم يكن مرتبطا فقط بالأجناس الأدبية اللغوية، بل عقد قرانا مع أجناس أخرى غير لغوية، بيد أنها هي الأخرى تجعل من جمال الذوق الفني الإستيتيكي حجر الزاوية في مباشرتها للمتلقي كالرسم والفن التشكيلي والسينما… وغيرها. إلى حدود ذلك، يمكننا أن نطرح سؤالا يبدو جوهريا، هل الإبداع العربي عموما يكون بدافع جمالي أم لا؟ وهل لنا مؤسسات تدافع عن الفهم الحقيقي للجمال، حتى نتذوق طعم الحياة؟ وأخيرا، هل نفهم في الذوق الجمالي؟

 

  • كاتب مغربي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي