لماذا يصر السودان على الانحياز لإثيوبيا

2020-03-08

حسابات الخرطوم في ملف سد النهضة تميل نحو الجانب الإثيوبيالقاهرة - محمد أبوالفضل -  تتعامل بعض الجهات الإقليمية مع موقف السلطة في السودان من ملف سد النهضة على أنه أمر طبيعي في ظل الحالة الرمادية التي تسيطر على غالبية المواقف الخارجية التي تتصدى لها الحكومة، أو أنه يعكس جانبا من الارتباك في التقديرات السياسية، وهناك جهات عدة تحرك الأمور في القضايا المختلفة بما يؤدي إلى تضارب في القرارات، وتتعرض الحكومة لهجوم قاس تستفيد منه القوى المناهضة والرافضة للتغيير السياسي الذي جرى في البلاد.

ربما يكون هذان المحددان صحيحين، لكن تطبيقهما يصبح منطقيا في ملفات أخرى. فمنذ سقوط نظام الرئيس السابق عمر حسن البشير لم تتغير الحسابات المركزية في ملف سد النهضة، ولم تؤثر الانتقادات المحلية التي حذّرت من مغبة الانسياق وراء تأييد إثيوبيا وجرت الإشارة إلى جملة من التأثيرات الفنية السلبية، ومع ذلك مضت الخرطوم على الوتيرة نفسها، مع اختلاف بسيط يتمثل في ضبط التصريحات الرسمية والاعتماد على صيغة الكلام الصامت التي يرددها السودانيون عند المحكات التي يصعب فيها الحديث مباشرة.

تجدّد الحديث حول قضية سد النهضة مع تحفظ السودان على قرار مجلس وزراء الخارجية العرب، الأربعاء، بشأن التضامن معه ومصر، حيث تقدمت القاهرة بمشروع قرار يحض على مراعاة مصالح دولتي المصب، وتمت موافاة الخرطوم به للتشاور، لكن لم يبد السودان تجاوبا وطلب عدم إدراج اسمه في القرار، ورآه في غير مصلحته، ولا يجب إقحام الجامعة العربية في الملف أصلا، وأبدى مخاوف مما قد ينتج عنه في شكل مواجهة عربية إثيوبية.

انتهى تحفظ السودان، وصدر القرار برفض الدول العربية “أي مساس بالحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل أو الإضرار بمصالحها أو استخداماتها المائية، وأن الأمن المائي لمصر جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي”، وحققت القاهرة ما أرادته بصورة رمزية، ولا أحد يعرف هل تستطيع تحويله إلى قيمة مادية أم تكتفي بما حصلت عليه.

أقرب لإثيوبيا
يعرف المتابعون أن القرار العربي لن يؤثر في ثني إثيوبيا عما تريده، ولن يفضي التضامن المعنوي إلى تغيير في هياكل الأزمة وإعادة ترتيب الأولويات بما يبدل من شكل المعادلة الحالية ويخدم مصر في النهاية، لكنه يؤكد أن رؤية الخرطوم لا تزال تميل إلى جانب أديس أبابا. ولا يعد ذلك من قبيل المفاجأة، فلم يُظهر السودان في أي وقت قبل أو بعد سقوط البشير، أنه قريب من رؤية مصر السياسية، أو يقف ضد إرادة إثيوبيا أو يتصدى للخطوات التي تتخذها لتنفيذ مشروع سد النهضة.

المناقشة الموضوعية لموقف السودان تقود إلى حسابات أخرى، أهمها أن الدعم العربي ستترتب عليه أعباء سياسية واقتصادية

أقصى شيء كان يتخذه المفاوض السوداني في المحادثات التي جرت في عواصم الدول الثلاث وواشنطن منذ 6 نوفمبر الماضي وحتى الآن، تلمس الحياد الذي يفسره كثيرون على أنه مساندة ضمنية، وعدم تغيير الموقف الثابت الداعم لإثيوبيا، غير أن ذلك لم تتوافر له الأدلة الدامغة كي يمنح السلطة مساحة للحركة لتحافظ على دفء العلاقة مع القاهرة وأديس أبابا.

عندما وقعّت مصر على مسودة الاتفاق المبدئي بمفردها في أوائل فبراير الماضي في واشنطن، كنوع من حسن النوايا، رفضت إثيوبيا التوقيع وقتها، وهو الموقف ذاته الذي اتخذه السودان على أساس أن الوثيقة الأميركية لم تتم دراستها من الدول المعنية وتحتاج إلى مراجعة دقيقة، وبعد إرسالها ودراستها رفض الوفد الإثيوبي الذهاب إلى واشنطن في جولة 27 و28 فبراير للتوقيع عليها.

ولم تعلق الخرطوم التي وصل وفدها مع الوفد المصري إلى واشنطن على ما وصفته القاهرة بـ”التعنت والمراوغة الإثيوبيين”، أو توجه ملاحظة منهجية للممانعة الإثيوبية، ما ترك انطباعات لدى البعض بأن السودان غير بعيد عن إثيوبيا، ولو أن الأخيرة استشعرت خلاف ذلك لما تخلفت عن الحضور إلى واشنطن.

بدت العديد من الرسائل تسير في شكل غير مباشر، لكنها توحي في إجمالها بأن الخرطوم مستمرة في الدوران داخل الفلك الداعم لإثيوبيا، إلى أن جاء الموقف الحاسم في جامعة الدول العربية أخيرا، وكان الرفض قاطعا لأي تدخل عربي، ومحذرا من فتنة مع إثيوبيا.

وينذر هذا الموقف بتحولات في العلاقات بين الخرطوم والقاهرة وعدم استبعاد الخروج عن الهدوء الذي سادها عقب سقوط البشير، وقد يتعدى ملف المياه الذي تعتبره مصر مصيريا لأمنها القومي.

المناقشة الموضوعية لموقف السودان تقود إلى حسابات أخرى، أهمها أن الدعم العربي ستترتب عليه أعباء سياسية واقتصادية

يُفهم موقف السودان على أنه يدعم إثيوبيا، لكن المناقشة الموضوعية تقود إلى وجود حسابات أخرى، أهمها أن الدعم العربي ستترتب عليه أعباء سياسية واقتصادية يمكن أن تؤدي إلى ممارسة ضغوط على الخرطوم في هذا الملف، الأمر الذي ترفضه الحكومة التي تنتظر مشروعات واستثمارات عربية واعدة، لا تريد ربطها بأي من الأزمات الساخنة في المنطقة.

ناهيك عن عودة النظرة التي ترى أن مشروع سد النهضة ينطوي على فوائد اقتصادية للسودان إلى الارتفاع، وسوف يكون مفيدا في تخفيف حدة الأعباء على كاهله، ويوحي التأييد بالروابط التنموية المشتركة، حتى لو حمل مشروع السد خسائر على المدى البعيد، وهي الزاوية التي تستحق التركيز عليها فنيا لتحاشي وقوعها مستقبلا، ومن المهم أن تمضي إثيوبيا في عملية الملء في الموعد المحدد في يوليو المقبل، لأن للخطوة دلالات معنوية مهمة.

يرغب السودان في أن تحقق إثيوبيا طفرة تنموية سريعة واستقرارا سياسيا كبيرا، يخففان من الضغوط التي تتحملها الخرطوم جراء وجود حوالي 5 ملايين مواطن إثيوبي على أراضيها فروا إلى معسكرات النزوح المختلفة، وينتشرون في مناطق عدة منذ سنوات طويلة، ويشير الوضع الراهن إلى أن هناك توافقا بشأن عودة هؤلاء إلى بلدهم تدريجيا.

يدرك السودان أنه لن يتضرر كثيرا من بدء إثيوبيا ملء خزان السد في موعده، لأن التأثير المحتمل سيكون ضئيلا على مستوى المنسوب المتدفق إليه من المياه، ما يمّكن الخرطوم من عدم التفريط في العلاقات مع أديس أبابا في الوقت الراهن، وعدم الدخول في أزمة يمكن ترحيلها، فالأوضاع في البلاد لا تحتمل تجاذبات جديدة مع دولة جوار في حجم إثيوبيا.

تقارب أفريقي
تعزز تحركات سياسية عدة، حرص الخرطوم على الامتداد الأفريقي أكثر من العربي، ويبين موقفها في الجامعة العربية هذه المسألة بوضوح، فإثيوبيا بمفردها أو عبر الاتحاد الأفريقي أسهمت في تجاوز الكثير من عقبات السلطة بعد رحيل البشير، وجوبا عاصمة جنوب السودان ترعى المفاوضات بين الحكومة والجبهة الثورية، وتميل الحوارات بين القوى السياسية المختلفة إلى الأبعاد التي ترسخ الامتداد الأفريقي وليس العربي.

تقليب الموقف السوداني على وجه آخر، يكشف أن قطاعا كبيرا من القوى السياسية لا تفضل التعاون والتنسيق مع مصر، وتظل النظرة إلى القاهرة مسكونة بهواجس تاريخية لم تتغير مع تغير الأنظمة، حيث نجح البشير في توسيع الفجوة، وثمة من يعملون على تغذيتها.

وتخشى السلطة اتخاذ مواقف إيجابية خوفا من التعامل معها على أنها “استسلام” لمصر، فتتعرض لمزايدات تعزف على هذه النغمة وهي في غنى عنها، لذلك حافظت العلاقات على الهدوء، وتمضي في حذر بالغ، ولم تطرأ عليها تغيرات تؤكد التفاهم في القضايا الكبيرة المشتركة.

انتظرت القاهرة أن تقدم الخرطوم على خطوة كبيرة في ملف المتشددين والإرهابيين، وحصلت على النذر اليسير منها، وتفهمت الضغوط الواقعة على الحكومة والأزمات الداخلية التي تمر بها، لكن ملف سد النهضة يمكن أن يقود إلى عودة المناوشات السابقة، فهناك قوى في السودان وخارجه تعمل على كسر أي محاولة للتقارب مع مصر، وتحريك الملف لصالحها.

تشير الطريقة التي تعاطت بها القاهرة مع موقف الخرطوم في الجامعة العربية إلى تأكيد القناعات بأنها أصبحت في مواجهة مع الدولتين، وعليها أن تحدد الخيارات في المرحلة المقبلة على هذا الأساس، لأن حياد السودان أحيانا، سيفسر على أنه انحياز.


*كاتب مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي